حتى العام 1977 لم يكن الاستراتيجيون قد وضعوا سقفاً زمنياً لنهاية حكم الشاه في ايران. فالامام الخميني كان قد غادر البلاد في منتصف الستينات منفياً وبدت القبضة الحديد لرضا بهلوي وكأنها قد خنقت النفس الاخير للثورة. وفي النجف العراق بدا الخميني كأنه راض بمصيره، واستحالت قدرته على المواجهة الى قدرة رجل اعزل خارج حدود بلاده. كانت هذه الصورة جزءاً من النسيان العام الذي يحجب بلاداً تحكمها الاقدار المستبدة لقرون طويلة. ولم يكن احد يتصور ان صوتاً في كاسيتات التسجيل من يدري ماذا كان يحدث لو لم يخترع "فيليبس" تلك الكاسيتات؟ يمكن ان يحرك الملايين من البشر ويقضي على امبراطورية مدججة بالاسلحة والشرطة والسافاك، والتقاليد الصارمة للقمع وبشاهنشاه ربط مصيره ومصير حكمه بواحدة من اكبر قوتين في العالم آنذاك، وتميز بالرعاية الاميركية الخاصة كونه على الحدود الجنوبية للدولة الكبرى الثانية في ذروة تصاعد ازمة الحرب الباردة. عمامة سوداء ولحية بيضاء وعينان صارمتان غطت المشهد فجأة وبسرعة مذهلة. تدهور نظام الشاه. وبدل ان تنقذه الجمعة الدامية اسرعت في القضاء عليه ورحيله مع مجوهراته وزوجته وابنه. هذا ما تبقى من الشاهنشاهية التي ما كانت تبدو رمزاً بقدر ما كانت واقعاً حديدياً يحكم خمسين مليوناً في بلاد تمتد من بحر الخزر حتى الخليج والمحيط الهندي. لم تكن الثورة هي المفاجأة على رغم انها كانت مفاجئة، ولم يكن انتقال القوات الجوية الى صف الثورة وتغييره ميزان القوى مفاجأة على رغم انه كان مفاجئاً. ولم يكن خروج مئات الآلاف من الايرانيين الى الشوارع منتفضين ومحتجين مفاجئاً على رغم انه فاجأ العالم. المفاجأة في كل الثورة كانت ذلك الرجل الذي كان في النجف ثم طلبت منه السلطات العراقية ان يرحل، فاذا به ينصب خيمة خارج باريس ليعود منها الى طهران منتصراً بالكلمات والارادة الصارمة. كانت شخصية الخميني وما تزال مثار جدل: في مستوى اطروحة دور الفرد في التاريخ. وفي مستوى الوسائل المستخدمة في الثورة. واذا كان الجدل مثاراً حتى اليوم فلأن شخصية الخميني فرضت نفسها على الثورة كما لم تفرضها الا شخصيات محدودة في التاريخ. وهذا لم يكن رأي مؤيدي الخميني بل رأي خصومه ايضا. واذا كانت الارادة الصارمة تعني العناد في خطاب الخصوم، فان الالتزام في الموقف كان يبدو لدى عدد من مؤيديه، من غير الاسلاميين، كالاصولية الدينية. غير ان الصفات الفردية للخميني لم تكن بعيدة عن فكرته عن الايمان، كما لم تكن بعيدة عن فكرته عن الهدف. وكلا الفكرتين نتاج العمل النظري الذي طوره في نظرية ولاية الفقيه التي اصبحت حجر الاساس للثورة وحكمها. وهذا العمل النظري نفسه كان مفاجأة اخرى في الثورة. فقد فرضت الفكرة نفسها كنظام سياسي، وامتدت الى ان تكون ازمة عالمية واقليمية بارتباطها بمفهوم تصدير الثورة الذي عجل بتغيير التحالفات وانتج فكرة الحرب لصد الثورة قبل ان تتجاوز الحدود الايرانية. ولم يكن الطموح لسد الفراغ الذي تركه رحيل الشاه كرجل اميركا في الخليج هو وحده الذي حرك نظام صدام حسين لشن الحرب ضد ايران. كانت هناك القضية الاكبر: هل يمكن للعراق ان يتحول الى ايران ثانية على الطريقة الخمينية؟ واذا تحول العراق الى ايران اخرى او الى امتداد لايران فما هو مصير المنطقة؟ واين تقع من العالم ومن الصراع بين القطبين آنذاك؟ وفضلا عن ذلك، كيف يمكن وقف التأثير الذي احدثته الثورة في العالم العربي والاسلامي؟ فالثورة اطلقت فكرة عفا عليها الزمن. اذ ان التطورات الاجتماعية والسياسية والثقافية في العالم العربي والاسلامي كانت تقود الى ابعاد فكرة الحكومة الاسلامية. واكثر من ذلك فقد شطبت من القاموس السياسي اثر صعود الانظمة القومية والاشتراكية، بعد الانظمة المدنية التي اعقبت انهيار الدولة العثمانية. وعلى رغم ان الاسلام ظل الدين الرسمي لجميع الدول العربية والاسلامية وهي تتجه الى الانظمة القومية والاشتراكية والليبرالية، الا انه لم يكن سوى المسجد والآيات التي تفتتح بها برامج الاذاعات. ولذلك كانت الثورة اعادة انتاج لفكرة بدت وكأنها ماتت بموت الدولة العثمانية وتحول تركيا الى دولة مدنية تتشبه باوربا حتى في حروفها اللاتينية. كان ماركس يقول عن محمد علي باشا في مصر انه "العمامة الوحيدة القادرة على تحويل مصر الى دولة حديثة" فما اغرى ماركس بمحمد علي انه بدأ يتصل بالغرب ويمكنن مصر بمكائن اوروبا ويوسع زراعة القطن، ويرسل رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك وغيرهما الى اوروبا للاطلاع على احوالها ونقلها الى مصر. غير ان عمامة محمد علي لم تكن سوى اللباس التقليدي للرجال في العالم العربي والاسلامي آنذاك، ورمزيتها تكمن في شرقيتها فحسب، بيد ان الخميني كان العمامة الوحيدة القادرة على تحويل ايران الى حكومة اسلامية تحاول الوقوف بين الشرق والغرب، واكثر من ذلك تحاول الوقوف ضد الشرق والغرب معاً على رغم ما بدا من ميل اعمق لمعاداة الولاياتالمتحدة باعتبارها "الشيطان الاكبر في العالم المعاصر". وخلال اكثر من عشرة اعوام طبع الخميني صورة ايران بصورته. ولم يكن شعار تصدير الثورة بحد ذاته مبرراً كافياً لمحاصرة الثورة في ايران منذ بدايتها لو لم يجد هذا الشعار صداه. ولذلك كانت الثورة الايرانية من الثورات القليلة التي وجدت لها صدى خارج حدودها. فهي وجدت من يتفاعل معها ويتبناها منذ اللحظات الاولى سواء بفعل المفاجأة ام بفعل الحلم الذي ايقظ الحالمين على واقع ملموس. هكذا كان الخميني صورة احتلت المشهد برمته تقريبا. حتى ان ملامح هذه الصورة عكست ظلالها على ماركسيين وقوميين عرب كثيرين: موقف صارم من اسرائيل ومن الولاياتالمتحدة في ظل تدهور سياسي وثقافي في المنطقة ساهمت زيارة انور السادات لاسرائيل في رسم معالمه. فضلاً عن ذلك اعادت صورة الخميني رسم معالم ومبادئ الثورة. فمن مفهوم الكفاح المسلح حتى مفهوم الانتفاضة الشعبية كانت صورة البطل والقائد المنفي بعيدة عن التأثير في عالم الثورات. حتى ان صورة كاسترو مبحراً في الغرانما مع اثني عشر مسلحاً من المكسيك الى كوبا ضاعت ونسيها الماركسيون في العالم وفي العالم العربي. وبدلا من البندقية احتل "الكاسيت" موقع الصدارة في الثورة. وبدل التسلل من خارج الحدود القيت على دبابات الجيش الايراني ورود اشتهرت ايران بالعناية بها. وبدل صورة الامبراطور القابض على الصولجان محاطاً بالاسود والشمس ظهرت صورة الجماهير التي تملأ شوارع طهران. كل شيء كان يوحي بثورة من طراز جديد. وكل شيء كان يوحي بنقيضه: الامبراطور الرابض على طهران يخلي المكان لآية الله الرابض في خيمة قرب باريس. والجيش الذي دفع الى الشوارع لابادة الجموع يتلقى الزهور في فوهات البنادق والمدافع. والجراحات السياسية الموقتة التي نصح الشاه باجرائها لاستيعاب الموقف اخذت تتدهور وتتعمق لتصبح استئصالا للشاهنشاهية. واذا كانت الثورة قد ألّبت اعداءها منذ البداية فان تسارعها لم يترك لهم خيارات واضحة: كانت شخصية الخميني توسع الخروق الصغيرة في النظام الشاهنشاهي لتمزقة ارباً، ولتكشف كم هو مهلهل هذا النظام الذي كان يبدو قماشة متينة متماسكة النسج عصية على التمزق. ولم يكن التمزق الاخير ليحدث لو لم يتمتع الخميني بذلك الاصرار على المضي الى النهاية. ولم يكن هذا الاصرار ليحدث لو لم يكن الخميني يتمتع ببصيرة سياسية في لحظات حاسمة كان يمكن لكل شيء فيها ان يتحول الى نقيضه: الثورة الى الخمود، والجماهير من الشوارع الى المقابر، والشاه من امبراطور حائر الى وحش كاسر، والعالم من ذاهل الى شامت. * كاتب عراقي مقيم في لندن.