لم يعد في الإمكان تحمل هذه الحرب العبثية التي تخوضها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني وتتحدى فيها العرب في شكل سافر ومهين، مستهينة بالعالم كله ومستخفة بالأمم المتحدة وقرارات الشرعية الدولية، واتفاقات السلام التي نقضت ونسفت قبل أن يجف حبر تواقيع رؤساء الوزراء الإسرائيليين خلال عشر سنوات، ومستعينة بالدعم الأميركي عبر الفيتو الظالم وضمانات القروض والمسايرة المطلقة. كما لا يجوز اختصار القضية الفلسطينية ومسيرة السلام في الشرق الأوسط الى مبارزة بين شخصين أو الى حرب ثأرية وانتقامية بين قائدين عجوزين في فلسطين وإسرائيل، حتى قيل ان الشعبين دفعا ثمناً غالياً لوقوعهما بين مطرقة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وسندان رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون. ولهذا لا بد من تخليص "القضية" من هذه العبثية ووقف هذه اللعبة الخطرة: لعبة "تسجيل النقاط" بين "أبو عمار" و"أبو عومري" التي أوصلت الصراع الى حافة التهديد الفعلي ليس لفلسطين وإسرائيل فحسب بل للمنطقة بأسرها، ومن دون مبالغة، لأمن العالم كله في حال تفجر الأوضاع وخروجها عن السيطرة. وحتى لا نساوي بين الظالم والمظلوم، وبين الجلاد والضحية لا بد من تأكيد أن شارون هو المحرض الأكبر والمسؤول الأول عن تدهور الأوضاع وتحويل القضية الى ثأر شخصي وحرب تصفية حسابات مع عرفات أصلاً ثم مع الشعب الفلسطيني، فهو الذي فجر أحداث العنف عندما استفز الفلسطينيين والعرب والمسلمين بتدنيس حرمة المسجد الأقصى المبارك والحرم القدسي الشريف، ثم بإصراره فور تسلمه رئاسة الحكومة على جمع أكبر عدد من المهووسين والمتطرفين الليكوديين وغيرهم من حوله وتمسكه بتحويل المسار من طريق السلام الى هاوية الثأر الشخصي للتخلص من عرفات بعد سلسلة المحاولات الفاشلة التي بذلها لاغتياله وتصفيته ثم قصف مقراته الرئيسة ومحاصرته في رام الله لأكثر من سنتين، ومحاولة سحب أوراق القوة والسلطة والنفوذ والمال من يديه، والزعم بأنه يشكل العائق الوحيد أمام السلام ما أن يزال حتى تحل جميع الأمور وتتراجع إسرائيل عن لاءاتها وشروطها التعجيزية. كان واضحاً منذ البداية أن شارون يريد نسف اتفاقات أوسلو نهائياً والتخلص من التزامات أسلافه خلال السنوات العشر المنصرمة وبالتالي التخلي عن مسيرة السلام وفرض الأمر الواقع بالقوة المعراة مستخدماً ذريعة عرفات مع لاءات ظالمة: لا لوقف الاستيطان، لا لإعادة القدس العربية، لا لعودة اللاجئين، لا للدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، لا للاعتراف بأي حق من حقوق الشعب الفلسطيني. يجب أن نتذكر ان شارون كان أعلن منذ اليوم الأول انه لن يصافح الرئيس عرفات ولن يتعامل معه رغبة منه في الانتقام منه ومن الشعب الفلسطيني مما تعرض له خلال اجتياح لبنان عام 1982 وفشله في القضاء على عرفات والمقاومة الفلسطينية، ثم في العار الذي لحق به بعد التحقيق معه وإرغامه على الاستقالة من وزارة الدفاع وتحميله مسؤولية مذابح صبرا وشاتيلا أمام العالم. وقد تمسك شارون بوعده هذا حتى اليوم على رغم الاتصالات السرية التي كان يجريها مع أبو عمار من خلال ابنه عومري، كما استطاع أن يقنع الرئيس الأميركي جورج بوش بتبني المقاطعة وعدم تعامل إدارته مع الرئيس الفلسطيني، وهو الزعيم الشرعي المنتخب لشعبه فكان ما كان من تأزم وتفجيرات وتدهور وتراجع في عملية السلام وفشل في تطبيق أبسط الحلول والمشاريع والمقترحات المرحلية والجزئية مثل تينيت وميتشيل وصولاً الى "خريطة الطريق"، التي يدق الإسرائيليون الآن المسمار الأخير في نعشها. هذه الحقائق يجب ألا تعمي أعيننا عن حقائق أخرى في الجانب الفلسطيني بسبب سلسلة الأخطاء التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، من دون أن نغفل حقائق انهيار الوضع العربي وحال التدهور واللامبالاة والتخاذل في صفوف العرب، وآثام الفرقة والتشرذم والخلافات المستعصية، والضعف والوهن والهوان في الجسد العربي. ومن البديهي أن يعم الاستنكار والشجب لقرار إسرائيل اللاشرعي والجائر بإبعاد الرئيس عرفات أو اغتياله، ومن الطبيعي أن يعبر الشعب الفلسطيني عن دعمه وتأييده وتضامنه مع رئيسه الشرعي، وأن يشاركهم العرب في تعاطفهم معه. ويجمع العالم على معارضة القرار إلا أن هذا كله لا يمنع من المطالبة بإعادة تقويم الأداء الفلسطيني على مستوى القيادة، وياسر عرفات بالذات، وفي صفوف المنظمات الفلسطينية وفي مقدمها "فتح" و"حماس". كان في إمكان عرفات أن يسحب البساط من تحت قدمي شارون وحكومته، إما بتخليه عن الرئاسة أو حتى عن بعض صلاحياتها أو بدعمه حكومة السيد محمود عباس أبو مازن لفترة من الزمن ويضع ثقله وراءها لفضح الزيف الإسرائيلي واختبار النيات الأميركية والتزامات "الرباعية" بالنسبة الى تنفيذ "خريطة الطريق"، فإذا نجحت، يستطيع القول انه كان وراء نجاحها، وإذا فشلت كان في إمكانه أن ينفض يديه منها ويعلن أنها فرضت عليه فوافق عليها من أجل مصلحة الشعب والقضية. لكن عرفات لم يفعل وهو مدمن مناورات وألعاباً خطرة ومغامرات وركوب موجات الخطر على اعتبار أنه كان ينجو منها دائماً، وينجح في استخدام عامل الوقت والمتغيرات في الساحة الدولية واللعب على التناقضات. وفي إمكانه أن يقول اليوم انه حقق بعض النجاح في اللعبة الجديدة وربح بعض الأوراق، وبينها ورقة استعادة الشعبية والتفاف الجماهير الفلسطينية حول قيادته وتكريس شرعيتها شعبياً وعربياً ودولياً، إضافة الى ورقة اسقاط حكومة أبو مازن التي لم يستطع أن يتقبل قيامها لحظة واحدة، لكن هذه النجاحات تبقى موقتة ومرحلية ومغلفة بطابع عاطفي آني لأن الخطر على القضية الفلسطينية برمتها كبير جداً، والمخاطر التي يمكن أن يتعرض لها الشعب الفلسطيني لا حدود لها إذا نفذت إسرائيل تهديداتها واستغلت حالي الفراغ الأميركي والدولي لضرب ضربتها الأخيرة في تكريس الاحتلال وتنفيذ المخططات الشارونية الليكودية المعروفة. فزعامة عرفات لا جدال حولها، وقدراته لا يشكك بها أحد، لكن الموقف يتطلب حكمة وتضامناً بين الجميع، ومبادرات تنهي حال الجمود وتعيد القضية الى الواجهة. ولهذا لا بد من الحؤول دون تنفيذ تهديدات إسرائيل ضد عرفات بطرق عدة، من بينها إيجاد مخرج لائق يحفظ كرامته ويبقي على قيادته ولو معنوياً إن لم يكن بالإمكان إيجاد مخرج آخر... فقد آن لهذا الفارس أن يترجل ولو بعد حين بالدعوة الى انتخاب قيادة جماعية مرحلية تشرف على انتخابات رئاسية ونيابية خلال عامين، فيضرب عصفورين بحجر واحد: سحب الذرائع الإسرائيلية وكسب الوقت مع الشرعية حتى يخلق الله أمراً كان مفعولاً. نعرف أن مثل هذه الطروحات تقابل بمعارضة وانتقاد وتفسيرات شتى، إلا أن العاطفة يجب ألا تمنعنا من رؤية الحقائق على أرض الواقع، وبينها حقيقة أنه لم يعد في إمكان الشعب الفلسطيني تحمل المزيد من النكبات، ولم يعد من الجائز ربط مصيره بفرد أو بمنظمة أو بقرار من فصيل أو زعيم ينسف الأوضاع ويقلب المعادلات ويعيد القضية الى نقطة الصفر، وهذا الأمر ينطبق على عرفات كما ينطبق على كل الفصائل والقيادات. فالمطلوب دولة مؤسسات وسلطة واحدة وسلاح واحد وقرار واحد ليس في يد شخص واحد بل في يد قيادة متجانسة وقادرة على حمل الشعب الفلسطيني الى شاطئ الأمان وتعزيز صموده وقدراته على مجابهة المؤامرة الصهيونية ومخططات شارون الجهنمية. وما قيل يوماً على لسان "الحكيم" الدكتور جورج حبش وهو يخاطب عرفات بالمقولة الشهيرة "ويلي منك وويلي عليك" تنطبق على الجميع لتصبح "ويلي منكم وويلي عليكم"، لأن من كان منهم بلا خطيئة فليرمه بحجر! وعلى رغم الغيوم السود التي تتجمع فوق المنطقة وتنذر بعاصفة هوجاء لن ترحم أحداً إذا جن جنونها فإن هناك الآن فرصة ذهباً للتحرك عربياً ودولياً إذا تأمن البعد الفلسطيني بتوحيد الصفوف واتخاذ اجراءات وخطوات عملية تنزع صاعق التفجير... وعلى رغم الصلف الإسرائيلي فإن شارون يحتاج الى خشبة خلاص من مأزق فعلي يواجهه داخل حكومته وحزبه... كما ان حليفه اللدود بنيامين نتانياهو يحيك له المؤامرة تلو المؤامرة لجره الى فخ القرارات الخاطئة لإسقاطه. كما ان الوضع الدولي مهيأ الآن لإيجاد مخرج ما بسبب الأوضاع في العراق والورطة الأميركية التي تزداد عمقاً، وحاجة الولاياتالمتحدة للأمم المتحدة والدول الكبرى والدعم العربي. والعرب قادرون على تحقيق تقدم إذا وحّدوا صفوفهم ونسقوا مع فرنسا وروسيا وبريطانيا بالذات التي يحتاج رئيس الوزراء توني بلير الى خشبة خلاص أخرى لإنقاذه من الغرق في أوحال المستنقع العراقي. ولهذا لا بد من تحريك المبادرة العربية للسلام وتطويرها وبعث الحياة في شرايينها لإقناع الإدارة الأميركية بأن "خشبة الخلاص" جاهزة وأن "خريطة طريقها نحو التجديد واضحة المعالم والمنطلقات والحدود، فالسلام بمتناول اليد، ومن يريد أن يدخل التاريخ" من أبوابه الواسعة عليه أن يدرك أن الحلول الجزئية لا مجال لها * كاتب وصحافي عربي.