George Monbiot. The Age of Consent: A Manifesto of a New World Order. سن الرشد: بيان لنظام عالمي جديد. Flamingo, London. 2003. 274 pages. يميل مؤيدو العولمة عادة الى اتهام منتقديها ب"السلبية". أي ان المنتقدين، حتى حين يضطر المؤيدون في بعض الحالات الى الاعتراف بصحة انتقاداتهم - خصوصا عندما تؤكدها الوقائع بما لا يقبل الشك - لا يقدمون بدائل ايجابية للنظام الاقتصادي والسياسي العالمي في شكله الحالي. الا أن كتاب الباحث والصحافي البريطاني جورج مونبيوت يأتي ليطرح تحديا مباشرا لهذا الموقف. اذ لا يكتفي مونبيوت بالبرهنة، من خلال تحليلاته المتماسكة، على أن النظام الحالي يفاقم من التفاوت في انحاء العالم بين البلدان الغنية والفقيرة، بدل ان يقرّب بينها، بل يقدم جملة من المقترحات البديلة. تتسم انتقادات مونبيوت بجذرية حادة، وهي لا تتناول مواقف المؤيدين للعولمة فحسب بل تتحدى، في الوقت نفسه، عددا من التيارات السياسية ضمن الحركة المترامية المعارضة للعولمة، التي تأتي تحت أسماء وشعارات مختلفة مثل "ضد العولمة" أو "ضد الرأسمالية" أو "من أجل العدالة الاجتماعية". ومن بين الذين يشملهم الهجوم التيارات الفوضوية ضمن هذه الحركات، التي يقول ان معارضتها لاقامة مؤسسات عالمية قوية تترك الضعفاء والمسحوقين أكثر انكشافاً أمام القوى الصناعية المتقدمة. كما يعارض الداعين الى العودة الى مفهوم غامض يركز على "المحليّة" أو الاكتفاء الذاتي ويرفضون في حالات كثيرة حرية التجارة، غافلين بذلك عمّا في هذه من امكانيات كبرى لاعادة توزيع الثروات على النطاق العالمي. كما يعارض على الاساس نفسه الأطراف التي تتخذ "سياسات أخلاقية" مثلا، الدعوات الى المقاطعة، معتبرا انها مواقف فردية قد تريح الضمير لكن تفتقر الى أي فاعلية. بدل ذلك يرى مونبيوت وجوب اقامة موقفنا من "ديكتاتورية المصالح الراسخة" على توسيع امكانات الديموقراطية لتشمل البعد العالمي بكامله. ويقول: "مهمتنا ليست اطاحة العولمة بل الاستيلاء عليها واستعمالها وسيلة للقيام بأول ثورة ديموقراطية للبشرية كلها". موقف مونبيوت الأساسي هو ان المؤسسات التي اقيمت خلال العقود الخمسة الماضية بهدف ادارة العالم في شكل ديموقراطي هي عمليا معادية للديموقراطية. مثلا، هناك نقاط ضعف واضحة في ديموقراطية الأممالمتحدة، حيث تتمتع الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن بحق النقض. وقد اتضح هذا التفاوت في النفوذ بشكل درامي في المواجهات الديبلوماسية عشية الحرب على العراق، عندما تمكنت الدول القوية والغنية من رشوة أو ابتزاز دول صغيرة ضعيفة للحصول على الأصوات، فيما لا يتربع على السلطة في كل مكان غير الذين تحظى سياساتهم بموافقة الأسواق المالية. ومن المؤسسات التي يركز عليها المؤلف أيضا البنك الدولي وصندوق النقد. ويعتبر أن المؤسستين في تعاملهما مع الدول الفقيرة تخضعان للاغنياء، أي دول "جي 8"، خصوصا الولاياتالمتحدة التي تملك 17 في المئة من الأصوات ويمكنها بالتالي استعمال الفيتو ضد أي قرار رئيسي تريد القرارات الرئيسية تتطلب غالبية 85 في المئة من الأصوات. هكذا لا تجد الدول الفقيرة خيارا سوى الانصياع الأعمى لمبدأ "حرية السوق" مهما كان الثمن. وهناك أيضا منظمة التجارة العالمية التي تبدو للوهلة الأولى "ديموقراطية"، اذ يتمتع كل من الدول الأعضاء بصوت واحد. لكن أجندتها في الواقع بيد "الأربعة الكبار"، أي الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان وكندا، ولذا أصبح ابتزاز الدول الفقيرة من قبل الغنية من الممارسات الشائعة فيها، تماما مثل صندوق النقد والبنك الدولي. وتقوم منظمة التجارة العالمية، مثل صندوق النقد والبنك الدولي، بفرض "حرية السوق" على الدول الفقيرة المدينة، مجبرة اياها على ازالة القيود على التجارة وحركة رأس المال، وخصخصة القطاع العام، في الوقت الذي تواصل فيه الدول الغنية اجراءات الحماية لمنتجاتها. وتجد الدول الفقيرة نفسها نتيجة ذلك في حلقة مفرغة من المديونية، التي لا تنهكها اقتصاديا فحسب بل سياسيا أيضا، وكل ذلك لأنها مجبرة على اتباع سياسات يقررها الآخرون. ما العمل تجاه هذا الوضع؟ تتمثل جذرية الحل الذي يقدمه مونبيوت لمشكلة التباين المتزايد في مستويات الثروة والنفوذ في العالم، في رفضه أي محاولة لاصلاح المؤسسات الموجودة حاليا والدعوة الى الغائها واقامة مؤسسات جديدة مكانها. ويستقي نموذجه للحل من الاقتراح الذي قدمه الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز في 1943 بهدف تغيير شروط التجارة بين الدول. وتلخصت فكرة كينز بانشاء بنك عالمي - "الاتحاد الدولي للمقاصّة" - يضمن قيام الدول الدائنة بتشغيل مستحصلاتها في اقتصادات الدول المدينة. ولهذا البنك أن يصدر عملته الخاصة - "البانكور" - التي تستعمل لقياس العجز أو الفائض لكل بلد. ويكون لكل بلد حساب جار مدين في ذلك البنك يعادل نصف معدل قيمة تجارته خلال السنين الخمس السابقة. ويعطي هذا لكل من الدول دافعا قويا بنهاية كل سنة لتصفية حسابها مع البنك، أي التخلص من أي عجز أو فائض لديها لتلك السنة. الآلية التي تتكفل بذلك هي الفائدة التي يفرضها البنك على أي بنك مركزي يستعمل أكثر من نصف حسابه المدين أي انه يتجاوز الحد المقبول من العجز التجاري، وذلك بنسبة تتصاعد مع تصاعد الدين. كما يفرض البنك على البلد المدين خفض قيمة عملته بمقدار يصل الى خمسة في المئة لمنع تصدير رأس المال منه. في المقابل، وهنا جوهر الابتكار الذي قدمه كينز، فان هذا النوع من الضغط يسلط على الدول الدائنة أيضا. وذلك بفرض فائدة بنسبة عشرة في المئة على البلد الذي يتجاوز رصيده في البنك نصف المبلغ المخصص له في الحساب المدين. كما يتعين على ذلك البلد رفع سعر عملته والسماح بتصدير رأس المال منه. واذا كانت النتيجة في نهاية كل سنة أن رصيده يتجاوز المديونية المفتوحة له، يقوم هذا البنك الدولي الجديد بمصادرة تلك الزيادة. ويتم تحويل كل المصادارت والفوائد المستحصلة الى "صندوق الاحتياط" الذي يوضع تحت تصرف البنك. والغاية من مقترحات كينز التي قدمها في 1943 ورفضتها الولاياتالمتحدة، الدولة الدائنة الأكبر في العالم، كانت ايجاد توازن بين الدول التي تعاني من العجز وتلك التي تتمتع بفائض، لأن الأرصدة والديون كانت ستتجه خلال الدورة السنوية الى الغاء بعضها بعضا. ويؤكد مونبيوت أن اقامة بنك كهذا، مع بعض التعديلات الضرورية، ستضع حدا لما نجده الآن من فوائض الانتاج في الدول الفقيرة والاسراف في الاستهلاك في الغنية، كما تنهي الحاجة الى فرض سياسات "حرية السوق" وتؤدي الى تخليص الدول الفقيرة من قبضة الشركات المتعددة الجنسيات والبنوك الأجنبية. السؤال البديهي هنا هو: كيف يمكن تنفيذ اقتراح كهذا؟ المؤلف، كما أشرنا، يدرك مدى سذاجة "السياسات الاخلاقية"، ويرى أن بامكان الدول الفقيرة الرد على الابتزاز الذي تمارسه الدول الغنية ضدها بابتزاز مماثل. فالتقديرات تشير الى ان مجموع ديون الدول الفقيرة للبنوك التجارية والبنك الدولي وصندوق النقد يبلغ نحو 2.5 ترليون دولار، أي انه يقرب من ضعف مجموع احتياط بنوك العالم مجتمعة 1.3 ترليون دولار. والمعنى الفعلي لهذا، حسب مونبيوت، أن "عالم الفقراء يملك بنوك عالم الأغنياء". ويسمح هذا للفقراء بتنسيق جهودهم للمطالبة بشروط جديدة للمديونية، وان يضمنوا الحصول عليها من طريق التهديد باسقاط الديون كلها دفعة واحدة. ولا بد ان يكون من بين الشروط الجديدة الاستعاضة عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بآلية مشابهة ل"الاتحاد الدولي للمقاصة" تقوم تلقائيا بموازنة التباينات في التجارة الدولية. يضيف المؤلف الى هذه الفكرة اقتراحا بانشاء مؤسستين دوليتين جديدتين: الأولى هي "منظمة عدالة التجارة"، التي تسمح للدول النامية باتخاذ سياسات الحماية لتحقيق نموها، تماما مثلما فعلت دول مثل الولاياتالمتحدة وبريطانيا في الماضي لتحقيق طفرتها الاقتصادية. وعندما تتقدم اقتصادات الدول النامية سيتعين عليها التخلي بالتدريج عن الحماية، فيما يتعين على الدول الغنية في الوقت نفسه ازالة كل الحواجز على حرية التجارة التي تمنع واردات الدول الفقيرة من الدخول. اضافة الى ذلك على المنظمة أن تفرض قيودا على ممارسات الشركات العابرة الحدود في الدول الفقيرة القيود الحالية طوعية فقط. الابتكار الآخر، هنا، يتعلق بانشاء ما يمكن تسميته "برلمان العالم"، الذي لا يقع أعضاؤه تحت سيطرة حكومات الدول التي ينتمون اليها - أي انه سيكون برلمانا عالميا وليس دوليا، ولا يخضع بالتالي للابتزاز الذي تمارسه الدول الغنية على الفقيرة. ويمكن لمجلس كهذا أن يشكل بديلا ديموقراطيا لمجلس الأمن، تحتسب فيه أصوات كل بلد حسب عدد السكان ومدى ديموقراطية النظام السائد وفق معيار عالمي للديموقراطية. من الصعب في مقال كهذا تقديم عرض تفصيلي لكل اقتراحات مونبيوت. لكن يمكن القول ان كتابه مثير لأشد الاهتمام. وحتى اذا اعترض القارىء على بعض آرائه فلا بد من الاعتراف بقوة حججه وجدية تفكيره والتزامه الشخصي العميق بهذه القضايا الملحة. اضافة الى ذلك فان اقتراحاته تنطلق من منظور عالمي ووعي تاريخي عميق. واذ قد يصعب على البعض تصور حدوث هذه التغيرات الثورية في الاقتصاد العالمي فلا بد أن نتذكر، كما يقول مونبيوت، أن كل التغيرات الثورية اعتبرت "مثالية" الى أن تحققت فعلا على صعيد الواقع. وهل يمكن لأي دارس للتاريخ انكار هذا؟