ألقى التحية بسرعة. طلب فنجان قهوة. مد يده الى شعره المشعث يزيح بعض خصلات عن جبينه وجلس. "بالمناسبة، ذلك الشاب الذي تحدثنا عنه لديه مشكلة مع هويته الفلسطينية. احضريه كي اعالجه فأنا منسجم تماماً مع فلسطينيتي وإن كنت عانيت منها في صغري". يتحدث علاء بلهجة لبنانية خالصة يطعمها احياناً عن قصد او غير قصد بكلمات فلسطينية. ولكنها احياناً مطعمة بلكنة لا تسمعها الا في الشارع المسيحي في لبنان! هو كل ذلك. فلسطيني ولد في مخيم برج البراجنة لأب فلسطيني وأم سورية علوية انقذه انتماؤها مرة من براثن الاعتقال لدى القوات السورية، ونشأ بين لبنانيين من كل الطوائف والفئات. يضحك علاء عندما يتذكر اعتقاله ويقول: "لم اسلم من بعض اللكمات!". اكثر ما اغاظه في حينه قول الضابط السوري له: "بسببكم خسرنا الجولان!". احتكاكه الاول مع اللبنانيين جاء متأخراً نسبياً، اي في سني مراهقته حين اضطر للانتقال من مدرسة ال "أونروا" المخصصة للتلامذة الفلسطينيين الى مدرسة متوسطة في الاشرفية. اما الاصطدام الفعلي فكان في الجامعة. يتذكر علاء خروجه للمرة الاولى من المخيم. كان والده ينتمي الى احدى الفصائل الفلسطينية النافذة في ذلك الحين وأشار عليه بعض رفاقه من اللبنانيين باحتلال شقة هجرها سكانها في مبنى في شارع الحمراء. من خلف زجاج السيارة رأى الابن والده ينزل سكان المبنى بتهديد السلاح. يشد واحداً من شعره، يركل امرأة وينهر طفلاً. وجّه فوهة سلاحه الى احدهم وأمر الجميع بالاستدارة نحو حائط السور. خبأ وجهه في صدر امه وفكّر: "كيف سألعب مع اولاد الجيران؟". الواقع انه لم يلعب معهم ابداً. فبالنسبة اليهم كان هو ذلك الفلسطيني الذي اخذ مكان جار قديم ربما احبوه، وهم كانوا مجرد لبنانيين متناحرين في ما بينهم وغير متعاطفين مع القضية. اليوم يسامح والده ويسامح الجيران الذين كرهوه. يقول انه عندما ابتعد عن الصورة رآها بوضوح اكثر. فوالده لم يكن امامه خيار آخر. البيت في المخيم هدمته قذيفة وفقدت العائلة السقف الذي يؤويها. يذكر جيداً تلك الغرفة السوداء التي تقاسمتها عائلته مع اربع عائلات اخرى. سوداء جراء حريق التهم المبنى. وبقيت اسلاك الكهرباء تحترق وتذوب داخل الجدران طوال عام. يذكر ايضاً محاولات امه البائسة لتنظيف الجدران. يلوم والده على الاسلوب الذي احتل فيه الشقة ولكنه في صميمه أيقن انه لم يكن امامه خيار آخر. خلال سنوات الدراسة كان علاء متفوقاً وهو ما جعله مقرباً من اساتذته وزملائه، حتى الكارهين منهم للفلسطينيين. ولكنه عندما رسب في امتحانات الباكالوريا الرسمية، لم يستثن "نظرية المؤامرة" من الصورة. لا بل اعتبر ان السبب الرئيس في رسوبه هويته، خصوصاً انه خلال تقديم احد الامتحانات مر المراقب العام للتدقيق في اوراق الطلاب وهوياتهم، فإذا به يصرخ به: "الا يكفي اننا نتحمل بلاءكم والآن سنعلمكم ايضاً؟". ومنذ ذلك الحين وعلاء يكره ان يتوجه اليه احد بصيغة الجمع: "لماذا يخاطبني الجميع ب"أنتم"؟. انا فرد وشخص واحد ولست مجموعة ولا امثل احداً! يا اخي انا لست سفير بلادي في لبنان! من لديه مشكلة معي شخصياً فليتفضل لنحلها. اما ان يحملوني عبء الفلسطينيين برمتهم فهذا لا يجوز!". لم يستسلم للفشل ولكنه رفض ان يعود الى مدرسته وفضل الدراسة المهنية التي بنى خلالها صداقات خصوصاً مع الشابات. ويقول: "كل صديقاتي من اللبنانيات، ولكن لسبب ما زلت اجهله حتى اليوم لم تسر الامور بيننا كما يجب. كان دائماً يسود بيننا توتر ضمني لا نتحدث عنه. الامر اليوم مختلف، صديقتي الحالية لبنانية ايضاً ونحن نعرف بعضنا منذ ما يقارب ثلاث سنوات". اختار علاء الهندسة المعمارية في الجامعة اللبنانية - الفرع الاول حيث الغلبة لحركة "أمل" الشيعية. نال شهادته بتفوق فكان الاول على دفعته، ولو كان لبنانياً لحصل على المنحة الدراسية التي جيرت الى زميله. وعلى عكس غالبية الشباب الذين يتحدثون عن سنوات الدراسة الجامعية بنوع من الحنين الممزوج بالمرح والخفة، يمقت علاء جامعته. فهو يقول انها كانت اشبه بساحة كبيرة تحكمها مجموعات. الاساتذة كلهم من "الحركة" والطلاب ايضاً. امضى السنة الاولى ونصف الثانية من دون ان يبني اي صداقات لأنه قرر ان يركز على دروسه من دون ان يدخل في "اللعبة اللبنانية"، خصوصاً ان الجميع كان يرتاب منه لأنه فلسطيني. فضل التقرب من الجميع من باب انه طالب مجتهد من دون ان يحسب على اية فئة سياسية. فكان يجلس مع الشيوعيين حيناً على قلتهم وشباب "الحركة" حيناً آخر و"المستقلين" احياناً. تعلم كيف يتجنب استفزازهم، فلم يكن يتحدث معهم في السياسة، وألغى الالفاظ الفلسطينية الثقيلة من قاموسه. عرف كيف يكسبهم جميعاً، حتى انه عندما وصل الى المراحل الدراسية المتقدمة كان كوّن صداقات متينة مع بعض الاساتذة الذين شكلوا له غطاء فعلياً ودرعاً واقياً امام الآخرين، اضافة الى ان اسمه صار متداولاً بين الطلاب الجدد. الا ان ذلك لم يمنع احد اساتذته من تلزيمه مشاريع هندسية ضخمة بأسعار زهيدة متذرعاً بأن "الفلسطينيين يقبلون بالقليل وغالبيتهم عاطلة من العمل اصلاً". وبالفعل فضل علاء البقاء عاطلاً لفترة على ان يرضخ ويذكر كلمات امه "يمّا لا ترفض، القليل افضل من لا شيء". وكان المنعطف الفعلي في حياة علاء عندما عرض عليه احدهم العمل في مكتب هندسة في منطقة انطلياس. انه احتكاك من نوع آخر. فهذه المنطقة هي ما كان يسمى ببيروتالشرقية، بيروت "المسيحية"، غير المتعاطفة مع القضايا القومية. التحدي اكبر. قبله. ويقول: "عرفت مرة اخرى كيف اجعلهم يقبلونني اولاً ثم يحبونني. قررت الا اتحدث في السياسة ابداً. سأسكت ولو أثارني الموضوع. ولكن من يخطئ معي مهنياً فسأسحق رأسه وأعلمه اصول الهندسة من جديد. قررت ان اكون بينهم مهندساً فقط. ولكنني في الواقع كنت ظاهرة فعلية. فأنا علاء بين شربل وجورج وطوني وريتا. وأنا من ذلك الجزء من المدينة الذي لا يزورونه الا مكرهين. وفوق ذلك كله انا فلسطيني! ولمفاجأتي الكبرى حضنني زملائي بطريقة رهيبة. قبلوني كما انا. ادخلوني الى عالمهم وأدخلتهم الى عالمي. حياتهم ظريفة جداً، يعيشونها بين مناسبتين او احتفالين او قداسين". حضر علاء معهم قداساً وتندر على السريانية التي يستخدمونها في طقوسهم، فيما راحوا يتقلدون لهجته التي ما عاد يخفيها كثيراً، بل صار يعتبرها نوعاً من التميز. لم تعد احاديث السياسة تخيفهم وإن لم يتفقوا. دعاهم لزيارته في المخيم. لبوا الدعوة من دون تردد. سهروا وراح علاء يغني لفريد وعبدالحليم. نصحوه بالاشتراك في "سوبر ستار" وأصبحوا كلما ارادوا تمضية سهرة مميزة توجهوا الى برج البراجنة.