ثمة مفارقة لافتة في فسيفساء الطوائف اللبنانية. فالانفتاح والانصهار اللذان توحي بهما من الخارج يقابلهما تقوقع وخصوصية اجتماعية، بغض النظر عن عديد الطائفة ووزنها السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد. هذه المفارقة يمكن لمسها من خلال التواصل مع شباب الأقليات الطائفية في لبنان، أي الأرمن بمذاهبهم المتعددة والأشوريين السريان والكلدان واللاتين والانجيليين والأقباط وغيرهم. فدرجة انصهار هؤلاء مع الطوائف الكبرى أو الحفاظ على خصوصياتهم العرقية والثقافية والمذهبية والاجتماعية تفرضها عوامل عدة منها تمسك الأجداد والآباء بنقل التراث العرقي والمذهبي الى الأجيال الجديدة، إضافة الى أوضاعهم الاقتصادية التي تلعب دوراً في انفتاحهم أو تقوقعهم داخل المجتمع اللبناني. "اننا مثل نقاط الماء، إذا تجمعنا في وعاء يمكن أن نشكل قوة دفع أو سَنَد، لكن إذا وقعنا على الأرض نذوب ولا يُقيم لنا أحد وزناً" هذه العبارة التي ينطق بها الشاب الأرمني حكيم هارون انيربان هي اختصار لنظرية الطائفة الأرمنية في لبنان. ففي أزقة منطقة برج حمود في بيروت حيث تجمع الارمن، تتوضح هذه النظرية. فإذا ضاقت المنطقة على أهلها يكون الامتداد الى مناطق مجاورة جغرافياً إضافة الى الحرص على التداول والتكلم باللغة الأرمنية وهي عادة نشأ عليها الأرمن منذ مجيئهم الى لبنان عام 1913، كما يقول ليون غيتايسليان وحكيم هاروت انيربان وهما شابان أرمنيان، تعلما في مدارس أرمنية خاصة تعلم اللغة الأرمنية إضافة الى المنهاج المدرسي اللبناني. وبعد الحرب أنشأت الطائفة جامعتها الخاصة وهي جامعة هايكازيان، فأضحت اللغة الأرمنية هي اللغة الرسمية، إذا صحّ التعبير، في أزقة برج حمود، ليقتصر الكلام بالعربية مع الغرباء. إضافة الى الجامعة والمدارس هناك مؤسسات عدة يزخر بها المجتمع الأرمني وهي كفيلة بالحفاظ على خصوصياته، يقول ليون انه انتسب الى كشافة حزب الطاشناق الأرمني منذ ان كان في الثامنة من عمره، بناءً على رغبة والديه، فتعلم فنون السياسة والتراث والفولكور الأرمني. وهذه المهمات ليست ملقاة على عاتق الأحزاب الأرمنية وحدها بل تشارك فيها الجمعيات والأندية. مقابل الحرص على هذه الخصوصية كيف يتعاطى الشباب الأرمن مع الشأن اللبناني العام؟ يجيب حكيم عن هذا السؤال بالقول: "أنا شاب أرمني الدم، لبناني النشأة، ويعني ذلك أنني أحب لبنان وأقدّر نظامه الذي أعطاني الهوية والحرية في التعليم لكنني في الوقت ذاته لن أنسى المجازر الأرمنية التي دفعنا ثمنها مليوناً ونصف مليون أرمني". من الوصايا الأخرى التي يحرص الأرمن على تعليمها لأولادهم جيلاً بعد جيل هي ان "الحروب فرقت الشعب الأرمني وتسببت في تشرده، لذلك هم حريصون على عدم التدخل في الحروب الأهلية للبلاد الموجودين فيها، وقد ترجم أرمن لبنان ذلك بعدم مشاركتهم كطرف في الحرب الأهلية اللبنانية، واعتبارهم منذ عام 1965 لبنان وطناً نهائياً لهم". يترجم الأرمن، بعد اتفاق الطائف، الذي شاركوا فيه، رغبتهم في عدم الدخول في الأزمات السياسية اللبنانية، من خلال الانتخابات اللبنانية حيث يصوّت الجميع شباباً وشيوخاً للمرشحين المتفق عليهم من الأحزاب الأرمنية الثلاثة الموجودة في لبنان. مآخذ الشباب الأرمني على النظام اللبناني يحصرها ليون بعدم حصولهم على وظائف ومراكز في الدولة في الشكل الذي يتناسب مع مدى مساهمتهم في بناء لبنان. أما السبيل لحصول شاب أرمني على "واسطة" من أجل خدمة ما، فتكون عبر لجوئه الى أحزابه التي تتولى بدورها الاتصال بمعارفها من النافذين اللبنانيين لتسهيل أموره. نسبة زواج الأرمن من الطوائف الأخرى تبلغ حالياً نحو ثلاثين في المئة، وهي تزداد نتيجة اندماج الشباب الأرمني مع الشعب اللبناني وتعلمه للغة العربية بشكل أوضح، خصوصاً بعد اتفاق الطائف، وهم في الغالب مستعدون للزواج المختلط شرط احترام الشريك للقضية الأرمنية بكل تفاصيلها وقبوله بنقلها الى الأولاد، كما يقول حكيم. أما حرص الأرمن على التكتل في منطقة واحدة فيرجعها ليون الى الفرز المناطقي - الطائفي الحاصل في لبنان، فهناك، كما يقول، مناطق سنية صرفة، وشيعية وأرثوذكسية الخ... ويعترف ليون وحكيم بذوبان العادات والتقاليد الأرمنية شيئاً فشيئاً، فالمطبخ الأرمني مثلاً بات يدخله العديد من الأكلات اللبنانية الأجنبية وان كانت البسترما وتوابلها الحادة موجودة بقوة في كل الأحياء الأرمنية. وكذلك الأمر بالنسبة الى تقاليد العرس الأرمني حيث ينقسم المدعوون الى فريقين، واحد مع العريس وآخر مع العروس في حين يتبعون حالياً عادات الأعراس المسيحية الأخرى. ولكن هناك تقليدين أساسيين للأرمن سيستمران مهما اندمجوا مع الشعوب الأخرى وهما عيد الميلاد الأرمني وذكرى المجازر الأرمنية في 24 نيسان ابريل من كل عام. السريان وفقر الحال وللشباب السريان أيضاً خصوصيتهم الثقافية التي يتناقلوها جيلاً بعد جيل، على رغم صغر حجم طائفتهم السياسي على الخارطة اللبنانية، إضافة الى ميزة أخرى تطبع معظم شبان الطائفة وهي "فقر الحال" الذي يمنع معظمهم من اكمال دراسته الجامعية، فتكون أقصى طموحاتهم التعليمية نيل البكالوريا اللبنانية أو التوجه الى سوق العمل لكسب العيش. لكن عدم تمكن الشباب السريان من تحصيل علمي عالٍ لا يمنع من تكلمهم اللغة السريانية بطلاقة، ففي أزقة الحي السرياني المتواضع في بيروت معرفة جيدة لدى معظم هؤلاء القاطنين بالتاريخ السرياني - الأشوري كما يصرّون على تسميته، لأنهم متمسكون بقوميتهم وشغوفون بالحديث عن تاريخها الذي حفظوه من ترددهم على كنيستهم وجمعياتهم ونواديهم الموجودة في الحي. يبدي كل من جان وردا وميشال تشيركو وفيكتور، وهم الأشوريون، استعدادهم للحديث عن تاريخ قوميتهم بفخر، حتى يهيأ للسامع ان الثلاثة خارجون للتو من درس التاريخ. فيبدأ فيكتور بالتوضيح "ان المذهب ينالسرياني والكلداني ينتميان الى القومية الآشورية التي تترجم عربياً "بالأوائل" أي البادئين في معرفة الله، أما الاختلاف بين المذهبين فكان نتيجة تقاسم الامبراطورية الأشورية بين المحتلين الفرس لشرق الامبراطورية واسموا شعبها كلداناً، أما اليونان فقد أطلقوا على الشعب الذي احتلوه تسمية السريان لأنهم باتوا يتكلمون اللغة السريانية التي أتى بها اليونان". هذه المعلومات ينشأ عليها معظم الشباب السريان، كما يقول فيكتور، إضافة الى تعلم اللغة والموسيقى والفولكلور الأشوري الذي يضم العديد من الرقصات. ويفتخر جان بأن ثماني رقصات أشورية هي من أقدم الرقصات في العالم وهذا برأيه دليل على تاريخهم العريق الذي يمتد نحو 4500 سنة قبل الميلاد. يتمنى جان وميشال وفيكتور العودة الى أرض الأجداد في العراق، لكن ما لا يشجعهم على ذلك الاضطهاد السياسي والديني الذي يتعرض له الآشوريون. ويقول ميشال ان الشباب السريان يتماشون مع تقاليد البلد الموجودين فيه، فهم يحترمون القانون والطوائف الأخرى ولا يتعاونون مع العدو أو يخونون الصديق. من الناحية السياسية هم مستعدون لتأييد أي حزب لبناني يحمل قضايا الطبقات الفقيرة، ولكن للأسف هذا غير موجود، يقول جان، وبالتالي فإن تعاملهم مع الانتخابات النيابية لا يكون نتيجة قرار جماعي من الطائفة بل بحسب اقتناع كل سرياني بالمرشح الذي يريده. ويحتفل السريان الآشوريون بأعياد الميلاد ورأس السنة كما الطوائف المسيحية الأخرى، يقول ميشال، لكن هناك أعياداً لقديسي الطائفة يحرصون على الاحتفال بها كعيد مار خانينا الذي يقيمونه في الهواء الطلق، وتصنع على شرفه الأكلات الاشورية التي يزيد عمرها على آلاف السنين. أما عيدهم القومي، فيكون في أول نيسان من كل عام وهو عيد رأس السنة الأشورية أي عيد تجدد الحياة والتي غالباً ما تنظم خلالها أعراس جماعية لأبناء الطائفة ويكون على نفقة أحد الميسورين منها. يفضل جان وميشال وفيكتور الزواج من ابنة طائفتهم، وهي ميزة يتربى عليها معظم الشباب السرياني كون الفتاة السريانية تتربى على الرضى بالقليل وعدم المغالاة في الطلبات، إضافة الى حرصها على حفظ خصوصية الطائفة. لا يتواصل معظم الشباب السرياني مع الأحزاب اللبنانية ومعظم معلوماتهم عن الأحزاب تكون حول حزب زوعة وأشوريا السرياني الذي له ممثلون في كل البلدان العربية التي يتواجد فيها السريان وغالباً ما يكون "تضامنهم معنوياً".