سجلت حروب العراق وهجرات الملايين من ابنائه خلال ربع القرن الماضي تغييراً في تركيبته السكانية: مليونا قتيل من الرجال ونحو أربعة ملايين من المهاجرين غالبيتهم ذكور. وهكذا صار عدد النساء في العراق اكبر من عدد الرجال بحسب ما تشير اليه احصاءات عراقية آخرها كان عام 1997. غير ان هذا التفوق "العددي" للنساء قابله انسحاب "نوعي" من الحياة العامة، تكرس منذ بدء حرب الخليج الاولى ليصل الى مداه الأشمل، مع "حملة ايمانية" اعلنها النظام السابق استدعت عودة المرأة العراقية من حقول العمل الى البيت، وما ان جاء اعلان الرئيس المخلوع عام 2000 عن ضرورة اعادة النساء العاملات الى بيوتهن بذريعة انهن "يصرفن على الزينة والملابس اكثر مما يجنين من العمل"، حتى بدت حال النساء في العراق وكأنها دخلت مساراً ضيقاً هو الأصعب لها منذ ان بدأت البلاد حياتها المعاصرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وفاقمت ظروف الحرب الأخيرة أوضاع العراقيات بعد تهديدات وجهتها جماعات متشددة لكل امرأة لا تلتزم الحجاب، وجاءت حوادث الاختطاف التي تعرضت لها نحو 400 امرأة عراقية من مختلف الأعمار أخيراً لتحيط النساء في العراق بستار من القسوة والخوف والإقصاء. الناشطة النسائية العراقية منى صالح قالت: "قبل الحرب وبعدها ترزح المرأة العراقية تحت أوضاع مأسوية يعجز الوصف عن تحديدها. خلال حكم صدام سيق الأزواج والأبناء الى جحيم حربين ضاريتين. منهم من قضى نحبه ومنهم من أسر ومنهم من عاد مشوهاً ومنهم من قتل بعد العودة أو زج في غياهب السجون. وخلال الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق حملت الأمهات أطفالهن الجياع والمرضى الى مستشفيات خالية من الأدوية ووسائل العلاج وكان عليهن أن يسعين لتأمين لقمة العيش في أقسى الظروف. وبعد الحرب التي أسقطت نظام صدام انتشرت الفوضى وعدم الأمان وباتت الكثيرات من النساء العراقيات معرضات للاغتصاب. وعلى رغم تحديات ما بعد سقوط صدام ومخاوف الاختطاف والتحريم، رفعت المرأة العراقية صوتها من جديد مؤكدة وجودها وإصرارها على المساهمة الحثيثة في بناء عراق جديد، وتتالت المؤتمرات وآخرها الذي عقد تحت شعار "صوت العراقيات" وضم نحو تسعين امرأة. ويمثل هذا في نظر البعض الخطوة الأولى على طريق استعادة المرأة العراقية حقوقها الأساسية. ولم يقتصر تحرك المرأة العراقية على الداخل، بل نشطت في الخارج أيضاً على صعيد التخطيط للمشاركة في بناء الوطن. ففي ألمانيا، وبالتحديد في برلين عقدت ندوة دعت اليها "مؤسسة هاينرش بول" لبحث قضية مشاركة المرأة العراقية في عملية البناء والمضي قدماً في إحلال الديموقراطية. وفوق ذلك المنبر سنحت الفرصة للنساء العراقيات المشاركات في الندوة للتعبير عن آرائهن في الوضع الراهن في العراق وشرح تصوراتهن عن إمكان مشاركتهن في العملية السياسية. وتجلى من خلال ذلك مدى تباين الخبرات في هذا الميدان. فالكثيرات منهن يعشن في المنفى في ألمانيا، بينما بقيت أخريات في الوطن. الأمان أولاً... السيدة نسرين مصطفى صديق وزيرة إعادة الإعمار والتنمية في حكومة كردستان العراق أكدت الضرورة القصوى لضمان الحاجات الأساسية في الوقت الراهن للمواطنين وهي تعلم من خلال خبراتها كوزيرة منذ اثنتي عشرة سنة ما تحتاج اليه النساء بالدرجة الأولى وتقول عن ذلك: "النساء بحاجة ماسة الآن الى الامان. ثم تأتي المياه والتعلم والعناية الصحية، وعلينا أن نركز على هذه الأمور عندما نحاول تعزيز وضع النساء في شكل يمكنهن من ممارسة دور فاعل". وأضافت: "من المهم جداً بالنسبة الى النساء العراقيات أن ينظمن أنفسهن في تنظيمات مدنية بعيدة من التأثيرات الحزبية والتأثيرات السياسية الضيقة، لأن هذه التأثيرات في الحقيقة لعبت وتلعب دوراً سلبياً على الحركة النسائية في شكل عام في العراق". السيدة رقية القيسي من الرابطة الحقوقية العراقية التي يتشكل مجلس رئاستها من ممثلي المناطق العراقية كافة تشارك في مشروع هادف الى تطوير مخططات إصلاح القطاع القضائي في العراق وأشارت الى أن الهدف لا يتمثل في القضاء على كل من يؤمن بعقيدة حزب البعث، بل دمجهم في عملية التحول والتغيير. كما تحدثت عن نقاط أخرى: "ما نحتاج اليه حالياً هو علمانية الدولة، ونقصد هنا تحرير الدين من السياسيين واستغلال الدين لأهداف سياسية"، لافتة الى ان "مجلس الحكم الانتقالي الذي تم تشكيله في العراق لا يضم، من أصل 25 عضواً، سوى أربع سيدات، وهذه بداية متواضعة وفيها دلالة الى أن مسيرة المرأة العراقية نحو احتلال المكانة اللائقة بها سياسياً واجتماعياً لا تزال طويلة وشاقة". المتحدثة باسم "رابطة المرأة العراقية" هند وصفي طاهر التي نظمت تظاهرة في بغداد أخيراً تقول: "نطالب باإعادة النظر في قانون الاحوال الشخصية النافذ بما يمنح المرأة حقوقاً أكبر"، لكنها رفضت التصريح علانية عما تريده في القانون الجديد مكتفية بالقول: "يجب الغاء كل الفقرات التمييزية بين الرجل والمرأة في هذا القانون". ودعت ابنة الشخصية السياسية البارزة في سنوات العراق الجمهوري الأولى الى "اعادة المفصولات من وظائفهن في النظام السابق الى الوظيفة وطالبت قوات التحالف بإعادة الأمان الى الشارع". من جهتها طالبت كفاح عبدالمجيد، احدى المشاركات في التظاهرة، الادارة الاميركية باتخاذ اجراءات فورية للحفاظ على البيئة في العراق، بينما طالبت فوزية عمر، التي تعمل معالجة طبيعية في "مستشفى العلوية للولادة" في بغداد، بحكومة عراقية توفر الامن. وترى الشخصية الشيوعية العراقية سعاد خيري ان في تظاهرة المرأة العراقية في شوارع بغداد وتحديها لكل المآسي الحروب والحصار والمقابر الجماعية: "طاقات جبارة تحمل هذه المرأة على تجاوز كل تلك الجروح العميقة التي تثخن كل خلية في جسدها؟". شارلوت بونتتشلي، كبيرة منسقي قضايا المرأة الدولية في وزارة الخارجية الأميركية وزينب صلبي أميركية من أصل عراقي مؤسسة ورئيسة "الجمعية الدولية للمرأة من أجل المرأة" اعلنتا قبل الحرب تأكيدهما "رغبة المرأة العراقية وقدرتها على القيام بدور أساس في إعادة بناء بلدها". وأعربتا في كلمتين لهما في مجموعة نسائية للسياسة الخارجية، وهي جمعية من النساء المهنيات مقرها واشنطن، عن اعتقادهما بأن النساء في العراق سيجدن مع تحسن الوضع الأمني في البلاد دورهن المفقود". أظهر نظام صدام حسين شكلياً تقديره للمرأة. لكنه في الواقع قول من دون فعل، وإذا نبش المرء قليلاً فإنه يكشف التجاوزات الشوفينية والتفرقة الجنسية التي كانت تشكل أساس معاملة الحكومة للمرأة. وأبلغت زينب صلبي جمهورها من المستمعات الأميركيات أنها "لا تجد أي عائق تقليدي أو تراثي ثقافي معين يحد من دور المرأة العراقية. لكنها أشارت إلى أنه لم يجر بعد اختبار ما وصفته ب"السقف الزجاجي الوهمي" الذي يمنع مشاركة النساء العراقيات في المجتمع والحكومة". العراقية وتخطيط المستقبل وشددت على "اننا بحاجة إلى إشراك المرأة العراقية، غنية كانت أم فقيرة، متدينة أم علمانية في تخطيط مستقبل العراق". وأضافت أن "الغالبية العظمى من النساء اللواتي قابلتهن يؤيدن تشكيل حكومة علمانية ضمن إطار دولة إسلامية". بعض النساء داخل العراق ارسلن رسائل الى ناشطات عربيات ودوليات تقول: "نحن نعيش اليوم بين نارين: الارهاب الاميركي وإرهاب الجماعات المتطرفة. البنادق موجهة الى صدورنا من الجانبين: جيش الاحتلال يقتلنا، والجماعات الارهابية تقتلنا باسم الأخلاق والعفة. نحن النساء العراقيات، نعاني، ونموت في صمت". تقرير اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا إسكوا يوضح بحسب ما كتبته رئيسة مركز المرأة في اللجنة فاطمة قاسم بعنوان "المرأة العراقية والحروب"، أن 14 امرأة عراقية انهين تدريباتهن في قوة حماية المباني تحت إشراف خمس مجندات أميركيات على ان يكنَّ جزءاً من القوة المؤلفة من 4500 عراقي تطوعوا كي يصبحوا حراساً في خدمات حماية الأبنية. وكان التقرير عرض وضع المرأة العراقية عبر سنوات القرن الماضي وصولاً إلى حالها خلال الحصار، وأشار الى ان المشكلات الأساسية التي تواجهها المرأة العراقية التسرب من التعليم وبالتالي صعوبة الحصول على فرص العمل والدخل بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية. واتجهت النساء إلى النشاطات المنزلية المدرة للدخل بسبب تدني المستوى المعيشي، وختاماً ازدياد عدد النساء المعيلات لأسرهن في شكل واضح من دون إغفال المعوقات التي تواجههن. الآن يبدو المراقبون في بغداد قلقين للغاية من أن المتشددين يجبرون النساء والفتيات على ارتداء ثياب معينة، وعبر مسؤولو الأممالمتحدة عن انزعاجهم من ارتفاع عدد حالات الاغتصاب. ومنذ نهاية النظام السابق في العراق، تحاول فصائل أصولية عراقية، أن تثبِّت أقدامها في المجتمع مستغلة حال عدم الاستقرار. وقد تسلمت موظفة عراقية في الأممالمتحدة خطاباً مكتوباً بخط اليد، وفيه "تهديد لها بالقتل إن لم تغط شعرها". وقال متحدث باسم صندوق الأطفال في الأممالمتحدة، جيفري كيل، إن بعض المناطق هناك شهدت أيضاً ضغوطاً على تلميذات المدارس لكي يرتدين الحجاب، مشيراً الى ان "تلك مسألة حقوق الناس - ليس فقط حقوق النساء بل حقوق البشر - ولدى الناس الحق في الاختيار ما بين ارتداء الحجاب من عدمه، واختيار الدين الذي يدينون به، والطريقة التي يتعبدون بها في إطار ذلك الدين". الخوف عند النساء العراقيات انعكس في انهن لم يعدن قادرات على قيادة سياراتهن أو المشي في الطرقات بحرية. في بغداد قد تجد حضوراً وإن كان محدوداً للنساء في ميادين محدودة للعمل، لكن الأمر يغدو اكثر سوءاً. فهن لم يعدن ضحايا للتخويف فحسب بل ضحايا لغياب القانون أيضاً.