لم يعد من الممكن الحديث عن "خريطة الطريق" من دون ربط ذلك بما جرى في قمتي شرم الشيخ والعقبة، حين جاءت النتائج لتلقي ظلالاً من الشك على مدى جدية تعاطي إدارة جورج بوش مع قضايا الصراع العربي - الإسرائيلي، والفلسطيني - الإسرائيلي. وبدلاً من ان تتخذ هذه الإدارة موقفاً متوازناً يمتلك الحدود الدنيا من النزاهة والحيادية، عادت إلى ثابت سياساتها التي مارستها منذ وصولها إلى البيت الأبيض، وعماد هذه السياسات خوض الحرب لمصلحة "إسرائيل"، فمارست بالتناغم مع حكومة الإرهابي شارون ضغوطاً كبيرة على الدول العربية، وعلى الجانب الفلسطيني بشكل خاص، نزولاً عند الشروط الشارونية الأربعة عشر على خطة "خريطة الطريق" التي تنسف عملياً جوهر هذه الخطة وتحيلها إلى ورقة تفاوضية نقطة نقطة في مجرى التطبيق العملي، بدلاً من التنفيذ المتزامن تحت رقابة اللجنة الرباعية الدولية، كما تنص "الخريطة" نفسها. تعتقد الإدارة الأميركية المنحازة نسبياً الى الفهم الشاروني للتسوية بأن الظروف المستجدة بعد الاحتلال الانكلو - الأميركي للعراق، وما آل إليه وضع النظام الرسمي العربي جراء ذلك من تفاقم التفكيك والتآكل، مترافقاً مع نجاحها في فرض "قيادة جديدة ومختلفة" للشعب الفلسطيني حسب الزعم الأميركي - الإسرائيلي، باتت تمكن من فرض تسوية حسب المقاييس والشروط اليمينية الإسرائيلية، وحصر الرقابة بالإدارة الأميركية. وبعبارة أخرى الانفراد الأميركي، كما كان منذ مفاوضات واشنطن 1991-1993 إلى أوسلو 1993-1999 وحتى يومنا، ومثلت نتائج هاتين القمتين بداية تدهور خطير نحو مسار مدمر يحاول فرض المفهوم الإسرائيلي ل"خريطة الطريق" بما يفرغها من مضمونها ويحولها إلى مجموعة إملاءات بجوهرها أمنية مفروضة على الجانب الفلسطيني، في حين تنصّل وبشكل كامل الجانب الإسرائيلي من معظم الاستحقاقات المترتبة عليه حسب ما ورد في "خريطة الطريق"، فضلاً عن تقديمه خطاب قرار حكومة شارون في قمة العقبة الذي ربط "خريطة الطريق" بالشروط والتفاهمات الأربعة عشر مع إدارة بوش، وهو ما زاد من عدم توازنها وهي غير متوازنة أصلاً. إن ما سعى إليه بوش وشارون في قمتي شرم الشيخ والعقبة لا يعدو كونه محاولة مكشوفة للقفز عن قضايا الصراع الأساسية الملحة والشائكة نحو طلبات المرحلة الثالثة، شطب حق العودة مقدماً، عودة سفيري مصر والأردن، عودة العمل الطبيعي لمكاتب الاتصال والمكاتب التجارية الإسرائيلية في العواصم التي افتتحت فيها سابقاً ومبادرة باقي الدول في اتخاذ خطوات تطبيعية، وقبل حل أي من أركان الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الواردة في المرحلة النهائية القدس، الحدود، اللاجئين، الاستيطان… الخ. خطة غير متوازنة خطة الطريق، حسب منطوق نصها وجدولتها الزمنية أتت غير متوازنة، لأنها تقدم "الأمني على السياسي"، وتغفل الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي المقدمة منها الدولة المستقلة كاملة السيادة، اللاجئون، الحدود، الاستيطان، الأسرى، القدس، وتدين حق شعبنا المشروع في مقاومة الاحتلال والاستيطان. جاء في مقدم "خريطة الطريق" النص الوارد حرفياً: "إن حلاً للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي على أساس دولتين يمكن تحقيقه فقط من خلال انهاء العنف والإرهاب، وعندما يكون للشعب الفلسطيني قيادة تعمل بحزم ضد الإرهاب… الخ". وورد في البند السابع من المرحلة الأولى: "وتدعو المقصود القيادة الفلسطينية إلى الوقف الفوري للانتفاضة المسلحة وكل أعمال العنف ضد إسرائيل في كل مكان، وتكف جميع المؤسسات الفلسطينية عن التحريض ضد إسرائيل". وفي هذا جور واضح على الشعب الفلسطيني، حيث أن مضمون هذين النصين يثبت المفهوم الإسرائيلي - الأميركي القائل بأن النضال الوطني التحرري الفلسطيني بكل أشكاله: انتفاضة، مقاومة مسلحة، عمل دعاوي، يندرج تحت تصنيف الإرهاب المدان وغير المبرر. وهنا لا بد من القول بأن الإدارة الأميركية التي افرجت عن "خطة الطريق" بعد أخذ ورد وطول انتظار، دام لأكثر من ستة أشهر، تدرك أن فعل الانتفاضة والمقاومة وتراكماتها الوطنية الفلسطينية وتأثيراتها عكست نفسها على الحال العربية شعوباً وأنظمة قرارات قمة القاهرة في تشرين الأول/ اكتوبر 2000 السياسية والمالية لدعم الانتفاضة والمقاومة رسمياً وشعبياً، وعمّان في آذار/ مارس 2001، وبيروت في آذار 2002، مبادرة السلام العربية. وأدت الانتفاضة إلى تفاعلات دولية عكسها العديد من قرارات مجلس الأمن وأهمها: القرار 1397 الذي أقر للمرة الأولى وبالاجماع حق الشعب الفلسطيني بدولة فلسطين بحدود 4 حزيران يونيو 1967، وخطاب رؤية بوش في 24/6/2002. وأمام تفاعلات الانتفاضة وانهيار المسيرة الأوسلوية تنامى دور الاتحاد الأوروبي، الأممالمتحدة، روسيا للمرة الأولى بعد عشر سنوات من التفرد الأميركي بمصائر الصراع في الشرق الأوسط، منذ مؤتمر مدريد 31 تشرين الأول 1991 حتى اندلاع الانتفاضة والمقاومة في 28 أيلول سبتمبر 2000، وعليه تم تشكيل اللجنة الرباعية الدولية بعد خطاب بوش 24/6/2002، وهو ما رسم قبول واشنطن بدور للاتحاد الأوروبي، الأممالمتحدة، روسيا في البحث عن حل للصراع من خلال اللجنة الرباعية الدولية. من هنا نستنتج أن المقاومة الشعبية الفلسطينية الباسلة لجنود الاحتلال وقطعان المستوطنين على مختلف أشكالها، شكلت الرد والمعادل في وجه السياسات الدموية الاحتلالية التوسعية الشارونية، وهي التي شكلت سداً منيعاً في وجه سياسات النفق الأوسلوي المظلم الذي اندلعت الانتفاضة رداً على، وبديلاً عن، بؤس طريق أوسلو، التي وصلت إلى الطريق المسدود ومن ثم الانهيار، بفعل تعنت السياسات الإسرائيلية الرافضة للاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وهذا يوضح سبب السعي الأميركي - الإسرائيلي المحموم لتجريد الشعب الفلسطيني من حقه المشروع هذا، لكن غير المفهوم حقاً تلك السياسات الرسمية العربية التي تتناقض مع قرارات قمم القاهرة وعمّان وبيروت العربية، معطوفاً عليها سياسات حكومة محمود عباس التي تساوقت مع هذا الطرح الأميركي في قمتي شرم الشيخ والعقبة، والعودة الأخيرة من واشنطن بأيدٍ فارغة وأوهام الكلام التي تطاير كثيره في زيارة شارون لواشنطن في 30/7/2003. السيد محمود عباس في قمة العقبة دان ما أسماه بالإرهاب والعنف، ولم ينسَ أن يبدي تفهمه وبحرقة لعذابات اليهود على مر التاريخ متناسياً عذابات المسيح الفلسطيني الذي ما زال مصلوباً منذ النكبة الوطنية القومية الكبرى عام 1948 على خشبة الاحتلال والقهر والمجازر اليومية، على أيدي حكومات الاحتلال المتعاقبة التي صادرت حقه في العيش على أرضه مستقلاً وصاحب سيادة. إن في هذا محاولة لليّ عنق الحقائق، فالمقاومة المسلحة هي نتاج قهر وممارسات الاحتلال واستمراره، والتوقف عنها لا يكون إلا برحيل الاحتلال وتفكيك الاستيطان، وتمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة، في دولة فلسطين المستقلة كاملة السيادة، عاصمتها القدسالمحتلة وبحدود 4 حزيران يونيو 1967، وحل مشكلة الشعب اللاجئ عملاً بالقرار الأممي 194 كما ورد في قرارات القمم العربية بعد الانتفاضة وآخرها مبادرة السلام العربية آذار 2002. وإذا كان صحيحاً أنه لا يمكن حل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي عسكرياً، فهذا يعني أن تفهم "إسرائيل" بأن عليها الاقلاع عن سياسة القتل والتوسع والاحتلال والجدار الفاصل، مقابل الأمن الذي تنشده بدعوتها لإيقاف أعمال المقاومة والتحريض ضدها. وخطة "خريطة الطريق" غير متوازنة، لأنها تجعل تنفيذ الالتزامات "حسب الأداء" بالتوالي لا بالتوازي، حيث أن المطلوب من الجانب الفلسطيني هو القيام بسلسلة خطوات طويلة ومرهقة ذات طابع أمني مع ما يحمله هذا من محاذير، على أن يقوم بعدها الجانب الإسرائيلي بخطوات، بعد أن يكون قد قوّم مدى التزام الجانب الفلسطيني بتنفيذ ما هو مطلوب منه، أي يجعل من "إسرائيل" الخصم والحكم، ويضع بالتالي زمام المبادرة بيد شارون والأحزاب الإسرائيلية اليمينية المتطرفة لتعطيل تنفيذ أي خطوات أو التزامات من جانب إسرائيل، يضاف إلى هذا الخلل الكبير بكون مدتها أي الخريطة طويلة تمتد لثلاث سنوات، وتنفذ على ثلاث مراحل، وهو ما يوقعها في ذات الخلل الذي وقعت فيه مسيرة أوسلو التي انتهت بالنفق المسدود بسقف أيار مايو 1999، وكانت الانتفاضة والمقاومة من جديد لفتح أفق التسوية السياسية عملاً بالقرارات الدولية. حل قضية اللاجئين ورد في المرحلة الثالثة النص التالي: "وتشمل حلاً واقعياً وعادلاً وشاملاً ومتفقاً عليه لموضوع اللاجئين"، وهنا نلاحظ أن الإدارة الأميركية أخذت بالمفهوم الإسرائيلي في تفسيرها لهذا النص، وبدا هذا واضحاً في خطاب الرئيس بوش في قمة العقبة من خلال ما عبر عنه تحت عنوان "التزام بأمن إسرائيل كدولة يهودية"، ولطالما ردد أركان الإدارة الأميركية بعدم واقعية حل العودة، كونه يمس بأمن دولة إسرائيل وطابعها اليهودي، وهذا طرح شاروني، ولا يمثل فقط محاولة لشطب حق العودة مقدماً كشرط إسرائيلي للقبول بما ورد في "الخريطة"، بل يتعدى ذلك إلى كونه يعرض للمخاطر حق مليون ونصف مليون فلسطيني في المثلث والجليل والساحل والنقب، في الحياة على أرضهم وأرض أجدادهم تحت ما يسمى "ضمان طابع يهودية دولة إسرائيل" ويرمي بهم نحو المجهول وخطط الترانسفير. إن هذا الموقف الأميركي المعبر عنه ب"تفهم" المخاوف الإسرائيلية، يمثل قرصنة على القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، التي ضمنت حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم حسب القرار الدولي رقم 194 الصادر عام 1949. والمفجع في الأمر أن راعية الديموقراطية في العالم تضع كل ثقلها لتكريس طابع عنصرية دولة إسرائيل، من خلال تبني هذا الطرح وقطع الالتزامات للمحافظة عليه! في حين تجعل "الخريطة" من قضايا الحدود، القدس، المستوطنات، قضايا تفاوضية تبدأ في المرحلة الثالثة 2005، وخطورة هذا الطرح أنه لا يتبنى المبادئ التي طرحتها قرارات الشرعية الدولية! أي مبدأ الانسحاب الكامل من كل المناطق التي احتلتها إسرائيل في عدوان 5 حزيران 1967 إلى ما وراء حدود 4 حزيران 1967. إن "خريطة الطريق" تمثل عودة لسياسة الخطوات الصغيرة التي تم تجريبها في أوسلو، وانتهت إلى ما انتهت إليه من فشل ذريع، بما يجعلها عرضة للغرق في التفاصيل التفاوضية. * الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.