تقاطعت هذا الأسبوع أحداث علمية فلكية بارزة مع الأحداث السياسية اليومية. ورغم أن اقتراب كوكب المريخ من كوكب الأرض أكثر من أي وقت مضى حدث منذ ما يزيد على 60 ألف عام، فإن السياسة طغت على العلم مع أن الأفضل لو يحدث العكس. وعندما يمتزج التحليل السياسي مع الأحلام من كل نوع يبرز سؤال إلى الذهن ولو أنه يحمل الطابع الأسطوري: هل يمكن اللجوء إلى كوكب المريخ هرباً من متاعب كوكب الأرض وأهله؟ ولأن الأحلام والخيالات المجنحة لا يجدي نفعاً التعلق بها، دعونا نبقى في إطار الواقع المعاش على درجة المأسوية فيه لنتوقف عند حدثين متلازمين في كثير من الوقائع والتفاصيل وقد اختزلا محنة المنطقة، أحدهما للشهور القليلة الماضية وسيتابع ذلك لشهور قليلة آتية وربما أكثر العراق، وثانيهما كان المأزق الشاغل لأهل هذه المنطقة لما يزيد على نصف قرن، وربما امتد هذا المأزق لنصف قرن آخر فلسطين إسرائيل. ولو أمكن إيجاز محيطات مترامية الأطراف من التطورات المقلقة في هذين الموقعين لاستخدمنا العنوان العريض الآتي: هناك حرب مواجهة "العصر الأميركي في العراق"، ولأضفنا إليه العنوان الآخر: هناك حرب مواجهة "العصر الإسرائيلي في فلسطين"، في ظل التخبط الحاصل داخل الصفوف الفلسطينية وبروز حدة التجاذبات وصراع نفوذ وصلاحيات بين مجموعة الأبوات وبلوغ هذا الصراع مرحلة بالغة الخطورة والتداعيات السلبية رغم محاولات البعض التخفيف من حدة المواجهة الفلسطينية - الفلسطينية أولاً، والمنازلة الفلسطينية - الإسرائيلية، وهي الأساس، تالياً. في العراق: نستعير من الرئيس المطارد صدام حسين تعبيراً انطلاقاً من الحرص على حقوق المؤلف ! لنقول بأن ما يجري في المشهد العراقي ككل هو "أمهات" المعارك بين الإرهاب من الصنع المحلي العراقي والذي ينسب إلى "فلول النظام السابق"، يضاف إليه الإرهاب الوافد أو المستورد والآتي إلى العراق من خلف الحدود بعدما أصبحت بغداد مركز استقطاب و"جذب قومي" لمن يريد تصفية حساباته مع الولاياتالمتحدة، الأمر الذي حول عاصمة المأمون أصحّ من الرشيد ساحة مفتوحة تشهد حرب الإرهاب على محاربيه. وأسوأ ما في الوضع العراقي المعقد أن قوات الاحتلال الأميركي في الأزمة، ولم تتمكن من أن تكون الحل. وعلى ضؤ ما يجري في العراق يتضح الآن بجلاء مقلق ومخيف كيف أن واشنطن كانت تملك خطة يتيمة لإسقاط النظام السابق، لكنها لم تعد حتى الآن خطة أخرى لإقامة النظام البديل بعدما أقالت الدولة العراقية بكامل أجهزتها من تسريح جماعي للجيش والقوات المسلحة إلى الاستغناء عن خدمات جميع الموظفين لتواجه بحالة من الفراغ المريع. وتأكد للجميع بعد تفجير مبنى الأممالمتحدة، ومن قبل مبنى السفارة الأردنية، أن قوات التحالف تخلفت عن ممارسة الالتزامات التي يفرضها عليها الاحتلال بموجب معاهدات جنيف وغيرها من المعاهدات الدولية، لذا وجدنا أن هذه القوات فشلت في الأهداف الرئيسية الآتية: في عدم تأمين الحماية لقواتها من أميركية وبريطانية، وفي عدم تأمين سلامة الحضور الدولي وهي بحاجة ماسة إلى وجوده، وفي عدم ضمان الأمن للمواطن العراقي العادي الذي وعد بالتحرير، فإذا بهذا التوصيف يقتصر على حرمانه من الخدمات الحياتية اليومية من ماء وكهرباء وغذاء ودواء، وبقي لهذا المواطن من حرب التحرير مصائب الاحتلال وعواقبه. وتكتمل صورة المأزق عندما نعلم بأن محاولة التفكير بخروج أو بإخراج القوات الأميركية من العراق حالياً هو المطب الكبير الذي يمكن أن يوقع به الوضع العراقي نفسه لأن النتائج الموازية لمثل هذه الخطوة لن تكون إلا المزيد من التخبط وانفتاح "الحالة العراقية" على كل احتمالات المواجهة في عراق متعدد الأعراق والمذاهب والاثنيات والمشارب الروحية والسياسية والحزبية. لذا يصح القول في محاولة فرض هيمنة "العصر الأميركي" في العراق: "فيك الخصام وأنت الخصم والحكم". ومن منطلق أن ضبط الوضع الأمني في العراق من شأنه أن ينعكس سلباً أو إيجاباً على الأمن القومي الأميركي تبدو أهمية متابعة قرارات واشنطن لمواجهة التحديات الكٌبرى على الساحة العراقية. لكن الرئيس جورج بوش يتابع سياسة المكابرة على الذات برفض الاعتراف بالهزيمة السياسية والعسكرية، ويصر على أنه ربح حرب الحرب وعليه أن يربح حرب السلام. وفي خطابه ليل الثلثاء - الأربعاء بدا مٌصراً على الاستمرار في سياسة التحدي وهو الذي أكد بعناد بقاء الوجود والاحتلال في العراق رغم كل الانتقادات. وبعد تفجير مبنى الأممالمتحدة طرح سؤال متشعّب: من يحمي من في العراق؟ هل القوات الأميركية بحكم واقعها الاحتلالي ملزمة تأمين الحماية للحضور الدولي والذي هو حاجة ماسة إليها؟ أم أن هذا الحضور الدولي يمكن أن يؤمن "الحماية" المعنوية والسياسية للقوات الأميركية باعتبار أن الأممالمتحدة هي طرف محايد وليست طرفاً في النزاع؟! فلسطين: صراع "الأبوات" المدمر ونأتي إلى نقطة التفجر الأخرى حيث أكثر من نقطة التقاء تجمع مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وفي هذا الشأن بعض الكلام الذي يرضي أو لا يرضي هذا الفريق أو ذاك، لكنه يجب أن يقال. المطلوب أولاً وبسرعة الاتفاق على "خريطة طريق" تركز على تنظيم العلاقة ما بين أطراف السلطة الفلسطينية من مجموعة الأبوات وفي الطليعة "أبو عمار" و"أبو مازن" وملحق آخر من هذه الخريطة لضبط التعامل بين جانب السلطة وجهات وفصائل الرفض الأخرى من "حماس" والجهاد الإسلامي وغيرهما. ونبدأ بالعقدة الأمنية التي هي واحدة من أوجه الصراع بين الرئيس عرفات ورئيس الوزراء محمود عباس. فبعدما بدا أنه أمكن تجاوز "عقدة دحلان" بتعيينه وزيراً للشؤون الأمنية هب الرئيس عرفات للمحافظة على مواقعه وعلى نفوذه وعلى صلاحياته سارع إلى تعيين العقيد جبريل الرجوب بعد ترفيعه إلى رتبة عميد مستشاراً للأمن القومي. ويمكن أن يطلق على العميد الرجوب أنه "كوندوليزا رايس الفلسطيني" ! ولم يتأخر البيت الأبيض في الدخول مباشرة على خط هذا التعيين عندما وصفه المصدر الأميركي الرفيع بأنه "إجهاض للحل"! ورغم ما في هذا التعليق من أهمية لدور العميد الرجوب فهو يمنح تعيينه حجماً أكبر من الحل ومن القضية الفلسطينية بحد ذاتها. وفي ضؤ كل ما يجري داخل البيت الفلسطيني يحق التساؤل: هل تم "تحجيم" القضية المركزية والكٌبرى إلى هذا الحد من "الشخصنة" حتى لا نستعمل كلمة "تقزيم"؟ ووسط حال التبعثر والضياع داخل الصف الفلسطيني برزت متغيرات واضحة في الموقف الأميركي عبر طرح جديد هو الآتي: "إذا كان الفلسطينيون يريدون أن يروا قيام دولتهم فعليهم تفكيك الشبكات الإرهابية". ومن المفارقات أن اغتيال إسماعيل أبو شنب أحد قياديي حركة حماس وأكثرها اعتدالاً و"هندسة" هو الذي حال دون تطور أي اشتباك فلسطيني - فلسطيني باعتبار أنه لا يمكن أن تلتقي إسرائيل من جهة وحكومة السلطة من جهة أخرى على معاقبة وتأديب فصائل الرفض في وقت متزامن. وهنالك أمر لا يمكن إلا التوقف عنده وهو ما تمثل بالتزام الفصائل بالهدنة لمدة ثلاثة أشهر من حيث المبدأ وبعد انقضاء الأربعين يوماً سقطت هذه الهدنة بفعل عاملين، الأول: عدم اعتراف إسرائيل بهذه الهدنة واعتبارها هدنة بين الفلسطينيين أنفسهم. والثاني: قرار حماس التراجع عن شراكتها مع حكومة محمود عباس عندما عمد بعض فدائييها الى القيام بتفجير القدس المعلوم. وبذلك أضاعت إسرائيل فرصة كبيرة للبدء فعلياً بتنفيذ "خريطة الطريق" التي لم يبدأ إقلاعها فعلياً بعد بانتظار أن ينتهي "المتعهد الأميركي" من مهمته في تمهيد الطريق أمام هذه الخريطة، وإلا سيبقى الموقف يراوح نفسه ليعود من جديد إلى حالة من التأجيج والاحتقان الخطرين. وحيال كل هذه الضغوط تحاط حكومة أبو مازن بالكثير من العوامل والمصاعب التي تحول بينها وبين ممارسة المهمات التي جاءت من أجلها. وهناك من يعمل على إحراج عباس لإخراجه من الحكومة وربما ظهر هذا الأمر بوضوح خلال مداولات المجلس التشريعي الأسبوع المقبل، اذ يريد أبو مازن الاحتكام إليه. وهناك من يقول أنه إذا لم يكن باستطاعة محمود عباس أن ينجح في أداء دوره ومهماته فلن توجد شخصية فلسطينية أخرى تقود هذه المرحلة إلا تحت مظلة ياسر عرفات. إذ يسعى رأس السلطة الوطنية الى تعويم دوره الأول رغم الحصار المفروض عليه ووجد في استعانة كولن باول بخدماته لتهدئة الوضع وعدم انهيار الهدنة إعادة اعتبار من جانب واشنطن ولو مرحلياً وهي التي سبق لها وبتحريض واضح من شاورن أن عملت على استبعاد عرفات من أي دور ونادت بإسقاط كل تعامل معه. لكن واشنطن ردت على مبادرة عرفات بالتزام الهدنة بالقول: "انه جزء من المشكل لا من الحل". ويحلو للمراقب أحياناً متابعة الصحف الإسرائيلية وما يكتب بعض صحافييها من آراء تخالف توجهات الحكومة وتعكس إلى حد ما اتجاهات الرأي العام الإسرائيلي، ومن ذلك ما كتبه بن كسبيت في صحيفة "معاريف" اذ قال: "هذا هو الوقت للاعتراف بالخطأ لإصلاحه والانطلاق في طريق جديد. ياسر عرفات خيراً كان أم شراً هو الأمة الفلسطينية، هو الأب المؤسس، هو الروح التي تحوم من فوق، الرمز، الأسطورة والإجماع. هو الوحيد القادر على أن يوحد الجميع، وأن يعطي الجميع أمراً وأن يضم تحت جناحه اللاجئين والنخب من رام الله في آن والتنظيم وحماس في جنوب القطاع. ويقولون في إسرائيل أنه قادر على أن يٌحدث بموته ضرراً أكبر مما يحدث في حياته". إذاً كيف يتصرف "أبوات" المعارك في صراعهم مع السلطة وعليها من جهة، ومواجهة الاحتلال وهيمنة العصر الإسرائيلي حيث جرى العبث الواضح بأولويات الصراع من جهة أخرى؟ في وثيقة إسرائيلية ورد ما حرفيته: "أكد شارون أن إسرائيل تمر في أخطر المراحل مصيرية بالنسبة لها كدولة لها حدودها الآمنة، ولها وجودها الدائم مشيراً إلى أنه يثق بأصدقائه الأميركيين، والقول أن الصداقة مع أميركا يجب أن تدوم"، ويضيف: "لكن الأصدقاء الأميركيين بعدما تورطوا في العراق وأصبح الإرهاب العربي يحاصرهم يريدون الآن تسوية أوضاعهم داخل العراق من خلال الضغط علينا للقبول بالسلام مع الفلسطينيين". وهكذا يحاول شارون تسجيل هدف في المرمى الأميركي عن طريق إظهار عجز واشنطن عن ضبط الوضع في العراق. لكنه يضيف في مكان آخر من هذه الوثيقة: "... أن الأصدقاء الأميركيين على استعداد للتخلي عن مفاهيمنا الأمنية مقابل إرضاء العرب ونحن لسنا على استعداد للقبول بهذه الترضية". ويروي شارون الحوار الآتي: "قلت للأميركيين خلال زيارتي الأخيرة لواشنطن إنني على استعداد لأن أساعدكم في ترضية العرب إذا ما نفذتم مئة شرط إسرائيلي. وعندما سألوني عن الشروط المئة قلت لهم: الشرط الأول الأمن الإسرائيلي، والثاني الأمن الإسرائيلي والمئة الأمن الإسرائيلي. أعطوني ضمانات وصكوكاً لتنفيذ هذه الشروط المئة أعطيكم ما تطلبونه لإرضاء العرب". ومفهوم نظرية تطبيق الأمن لدى أرييل شارون له مواصفات معينة بمقاس إسرائيلي وعدم ممانعة أميركية. ولا شيئ يحول دون ارتكاب شارون حماقة جديدة سواءً باتجاه "إبعاد" الرئيس عرفات لمصلحة محمود عباس أو تنفيذ ما أطلق عليه خطة "الرعد الخاطف" ضد سورية ولبنان في وقت واحد! وفي هذا السياق يمكن أن ندرج دعوة رئيس السلطة الفلسطينية جميع الفصائل إلى وقف فوري لإطلاق النار. هل جاءت هذه الدعوة متأخرة ؟ أم أن إطلاق أحد صواريخ القسام قد يطيح بأكثر من عرش فلسطيني؟ يبقى الخوف الأكبر من أن يكون الصراع بين الأبوات الفلسطينيين السبب المباشر في إطاحة رؤوس القضية من خلال تدمير الذات وفتح الباب العريض أمام تكريس العصر الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية التي أعيد احتلالها أكثر من مرة. * كاتب لبناني.