البلبلة واضحة في المواقف الأميركية، فهي تتأرجح حالياً بين محاولة انقاذ ما يمكن انقاذه من الأمر الواقع الذي فرض على العراق وبين مجرد هراء يلقى على مسامع من يرغبون في تصديقه. وفي آخر تصريح للرئيس جورج بوش ربط مباشر بين العراقوفلسطين، سببه "الهجمات الإرهابية". كانت واشنطن ربطت بين المسارين، مقتنعة بالحاجة إلى تهدئة ثابتة في فلسطين تعينها على مواجهة تقلبات الساحة العراقية. لكن يبدو أن ارييل شارون تمكن من اقناعها بأن هذه المعادلة غير مجدية. لذا سكتت الإدارة الأميركية ازاء سعي شارون وعصابته إلى نسف الهدنة التي أعلنها الفلسطينيون والتزموها ثم اضطروا إلى انهائها. وهكذا عاد بوش إلى المربع الشاروني الأول، فلا هدنة ولا حتى "خريطة طريق". قمتا شرم الشيخ والعقبة كأنهما لم تعقدا أصلاً. زيارة "أبو مازن" للبيت الأبيض كأنها لم تكن. أما "التفهم" الأميركي الذي اعتبره رئيس الوزراء الفلسطيني من مكاسب لقائه مع بوش فتبخر، هذا إذا كان قد حصل تفهم فعلاً. لا بد من التذكير بأن أجواء التهدئة شرعت تتدهور مع عودة شارون من واشنطن، واستمرت تفسد على وتيرة اغتيالات واعتقالات واستفزازات واجتياحات إلى أن عاد الوضع إلى نقطة الصفر التي تريح شارون وشاؤول موفاز وسائر أفراد العصابة. وعلى رغم وجود خلافات بارزة داخل عصابة العسكر الإسرائيليين بين متشددين وأقل تشدداً، إلا أن واشنطن لا تعتبر نفسها معنية إلا بالخلافات في الساحة الفلسطينية. الأمر مختلف في العراق. الأميركيون يحاولون الايحاء بأن المسار السياسي يسير بشكل جيد وأنه على ما يرام، إلا أن المفاجآت الأمنية تعكر صفو الاحتلال. ومنذ البداية، معروف أن الأمن شأن أميركي، بل ان واشنطن تصرّ عليه حتى لو استقدمت قوات دولية بقرار من مجلس الأمن الدولي. هذا الخيار بات مستبعداً الآن بعد تفجير مقر الأممالمتحدة في بغداد. ما يهم الأميركيين هو ان يأتي "شركاء" إلى العراق للمساهمة فقط في تكاليف الاحتلال. كانت واشنطن رددت مراراً بلسان صقورها، أنها مستعدة للذهاب وحدها إلى العراق، بل انها لا تريد حلفاء ولا شركاء. وهي فعلت ذلك، باعتبار أن المشاركة البريطانية والاسترالية لا تصنع "تحالفاً"، لكنها عجزت مثلاً عن إعادة تأمين الكهرباء والماء وبعض الخدمات الأساسية للسكان، كما ارتكبت سلسلة من الأخطاء، فساهمت في انشاء البيئة الخصبة والصالحة لظهور "الإرهاب". وهكذا وجدت نفسها مضطرة للعودة إلى الأممالمتحدة، بعدما أهانتها، لتطلب المساعدة، لكن من دون أي تغيير في طبيعة الوضع الاحتلالي، أي من دون أن تخسر أميركا شيئاً من سلطتها في العراق. هنا أيضاً برزت الخلافات مجدداً، أو بالأحرى ظهرت نتائج تجاهل "الولد العاق" بوش - على حد تعبير مادلين أولبرايت - للتحالفات الدولية، كذلك نتائج ترك "الحرب على الإرهاب" للتركيز على غزو العراق. إنها اللحظة المناسبة لتنبيه الإدارة الأميركية إلى وجوب مراجعة سياستها، وهو ما فعله وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دوفيلبان، لكن هذه الإدارة أكثر غطرسة من أن تعترف بوجود أخطاء أو بما يستوجب المراجعة. مع ذلك، هناك توجه إلى التصحيح، كيف؟ بالقول إن العراق بات "ساحة المواجهة الشاملة مع الإرهاب". هذا ليس خبراً جيداً للعراقيين. وأقل ما فيه أنه يعلن استيراد الوضع الأفغاني الذي تلى حرب اسقاط نظام "طالبان" وترسيخه لإدامة الاحتلال. ومع وجود الجنود الأميركيين بشكل مباشر على الأرض العراقية، يجد بوش نفسه متماهياً مع وضعية شارون، ولا غرابة إذا قال في الأيام المقبلة إن الدولة العراقية لن تعود إلا مع نهاية الإرهاب وتفكيك بنيته. يبقى أن من مظاهر البلبلة الأميركية أن إعلان بوش شخصياً عن تجميد أرصدة قادة "حماس" أثار السخرية والاستغراب، وهناك من تساءل كم مرة سيجمد بوش هذه "الأرصدة"، فالمعروف أنها - إذا وجدت - مجمدة منذ زمن.