بغتة فاجأتني الأنوار، وفاجأني ضجيج يتصاعد من أسفل بعيد، كانت دهشتي معلقة في الأعالي، دنوت من مصدر النور والضجيج، أزحت ستارة ثقيلة وإذا بي أمام أنوار النيل... نحيت حقيبتي جانباً وتخففت من ملابسي وخرجت الى الشرفة المضاءة ببدر حليبي... اني في الطبقة الرابعة والعشرين داخل فندق يشرف على النيل ويستجمع القاهرة في نصف مشهد واسع، من خلاله استطيع أن اتبين جبل المقطم. هذه المرة الثانية التي أزور فيها القاهرة، الأولى كانت عام 1980، يومذاك كنت مقيماً في بيروت، وحدث ان زارنا قادماً من بغداد القاص والروائي العراقي عبدالستار ناصر، فاقترح عليّ الذهاب الى القاهرة فقبلت اقتراحه المغامر فوراً، لأني سأرى الإهرامات والتقي بالأساطير الفرعونية، غير ان ما حدث هو أني التقيت بالحقائق الأرضية، فغصت في قاع المدينة، فالتقيت بهرمها الشعري أمل دنقل الذي كنت مفتوناً بديوانه "العهد الآتي" أحد أهم اصدارات فترة السبعينات الشعرية واحتدامها السياسي، حيث وجدت في تلك الفترة في شعر أمل دنقل نبرة جديدة، نبرة جمالية مختلفة، وذائقة ايقاعية مختلفة، وثمة تمايز اعطاه فرادة جلية، بوأته مكانة يستحقها وهو لم يزل في مطلع حياته الشعرية والفنية والثقافية. وديوان "العهد الآتي" بالذات قد أثّر في طريقة كتابته الجديدة، وطريقة تناوله للتراث الديني وفق مسار مغاير لسابقيه، وهذه المزايا كلها جعلتني أبحث عن أمل دنقل وأرسم له في خيالي مكانة شعرية مرموقة. وقتها التقيت أمل وكان صلة الوصل الشاعر العراقي الفقيد الذي قضى بالمرض ذاته اللعين محسن أطيمش، حينما كان يحضّر لرسالة الدكتوراه في القاهرة آنذاك، معاً سهرنا وتسكعنا وجلسنا في مقهاه المفضل "ريش"، ثم أجريت معه مقابلة لمجلة البديل، مجلة اتحاد الكتّاب والصحافيين والفنانين الديموقراطيين العراقيين الصادرة آنذاك في بيروت، وذكراه استعيدت الآن في بادرة نادرة وفّرها المركز الأعلى للثقافة في مؤتمر ابداعي تحت عنوان "أمل دنقل الانجاز والقيمة" الذي أقيم أخيراً في القاهرة. و"القاهرة اليوم" هي غير القاهرة في صيف عام 1980، لقد اتسعت جغرافياً وامتدت مساحتها الى أكثر من طاقتها، وازداد ساكنوها، وتنامت فيها الفوضى والزحام وعدم التناسق، لكن القاهرة في الليل تبقى تأسر الروح وتلهب مخيلتنا في مسار النيل ذي الدفقة السرمدية، واشراقته التي تستولي على الجسور الممتدة كالشرايين في فؤاد المدينة. الأزمنة الرومانسية بالتأكيد الحياة الفندقية البروتوكولية، لا تهيئ لي مشهداً فولكلورياً كالرحيل في خبايا المدينة واستشفاف اسرارها وسبر أماكنها العامة واختبار تجليات الحياة بين مرشديها الحقيقيين، أقصد عامة الناس، وهؤلاء الساعين في مناكبها - الحالمين - الرافعين حجارتها وبناة أملها ليل نهار... تحرّرت من القيود، وذهبت مع سيف الرحبي الى شقته لتمضية بضع ليال أخر، تمكنني من ترتيب الأزمنة الرومانسية الماضية بحسب مشاعر الأسود والأبيض في السينما، ووفق النسق الإيحائي الفني للأوقات الفضيّة من أعوام نهاية الستينات وعقد السبعينات. فعلى سبيل المثال، حينما أخطط للذهاب الى مقهى "غروبي" فإني أرسم شخصيات سينمائية، كانت قد مرّت في هذا الموقع الرومانتيكي، عبر مواعيد غرام مُثّلت في هذا الموقع الهامس. وكذلك هو الحال مع كورنيش النيل الذي مرّ عليه مئات العشاق من الممثلين في السينما المصرية، والحال ينسحب كذلك على جامعة عين شمس وحديقة الحيوان والأهرام، فضلاً عن استديوات الأهرام الذي قيض لي في عام 1980 زيارتها لرؤية تمثيل مشاهد حية من فيلم "عيون لا تنام" للمخرج المتميّز رأفت الميهي، كان الفيلم من بطولة فريد شوقي وأحمد زكي وعلي الشريف ومديحة كامل، وكانت تلك هي المرة الأولى التي أشهد فيها بروفات فيلم، كنت آنذاك في نهاية العشرينات وجل الممثلين في سن الثلاثين باستثناء فريد شوقي الذي اقتربت منه وسألته كيف يكتب قصص الأفلام فأجاب: إنها مجرد أفكار يحفظها ثم يمليها على كاتب السيناريو ليصبها في قالب قصصي، وتحدث عن بغداد الخمسينات إبان الفترة الملكية التي زارها فأحبّها لأن في دجلة شبهاً من النيل. ليلاً أقطع كورنيش النيل، ممارساً هوايتي المحببة المشي... هاضماً طقوس يوم كامل مملوء بالمشاهد والفاعليات والأسئلة والنقاشات وطعام الليل، والقاهرة مدينة ليلية بامتياز، فيها الناس صحاة والحركة دائبة ونشطة، كأنها في بداية النهار، ربما بسبب القيظ، أو هكذا هم القاهريون أبناء ليل طويل... وعلى هذا الكورنيش الطويل المظلل بشجيرات باسقة والمنقوش بمصاطب للجالسين والمضاء ساحله بزوارق نهرية ملوّنة كأنها مصابيح عيد تتراقص فوق صفحات ماء النيل، أقطع الكورنيش مع شربل داغر الشاعر والكاتب المملوء بالحماسة الكتابية، يهديني مختارات شعرية صدرت له في القاهرة في طبعة أنيقة، يحدثني شربل عن الصحافة ومتاعبها وكيف سرقت منه أوقاتاً ثمينة، تنبّه لها الآن ولهذا بات يكرّس جلّ وقته الآن للشؤون الكتابية. ليل مقهى الفيشاوي قلت ان القاهرة مدينة حياة، لا تهدأ نهاراً وليلاً، وليلها هو غير ليل المدائن العربية النائمة باكراً، الشاعر عباس بيضون يقترح مشروعاً ليلياً، فنخرج مجموعة من الفندق الى حي الحسين، بغية الجلوس في مقهى الفيشاوي، توزّعنا في سيارتين، نصيبي كان في سيارة الشاعر حلمي سالم، بصحبة الشاعرين عبده وازن وعباس بيضون، سيارة حلمي هي الأخرى رومانتيكية، تحتاج الى كلمات غزل وود وتربيت وهمسها بمفردات حبيّة، لكي توصلنا دون عناء الى المشتهى، حال وصولنا الى حي الحسين، بدأت سيارة حلمي تتعرّق وتصيبها الحمى، حرارتها ارتفعت فجأة وبخارها الساخن بدأ ينفث تيارات متلظّية، كانت السيارة متعبة بعد هذا المشوار وظمآى لجردل ماء، سقيناها حتى ارتوت وحينما عدنا اليها حردت ولم تقبل إلا أن ندفعها، مباركين خطوتها... مقهى الفيشاوي التاريخي كان منوّراً، والمرايا الثقيلة ذات الأطر الأثرية تتلامع بالوجوه والذكريات الدفينة ويتصادى فيها رنين الحكايا والليالي البديعة لنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم إذ كانت تموج بظلال النخبة الثقافية لمصر الستينات والسبعينات... أما نحن جلاس المقهى الحاليين عباس بيضون وقاسم حداد وعبده وازن وشربل داغر وفاطمة ناعوت وحلمي سالم وأمجد ناصر كانت تمر بنا أيدي الباعة ملوّحة ببضاعتها، تمر وجوه وأزياء وحركات بهلوانية وأصوات مرتفعة، في هذه الأثناء أجيل نظري في لمقهى، أتفحّص جمالها الفني فأدهش لبداهتها وعلو قامتها، وأعجب لجلاسها في الخارج من الفتيان والفتيات والسيّاح وهم يتناولون دخان الأراجيل فرحين في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل... نخرج بعد أن ثملنا بشاي معطر وقهوة تركية ستطيل أمد ليلنا... في السوق نتوقف عند بائع أشرطة تسجيل، أشتري أصواتاً لمطربين غابرين من أمثال كمال حسني وراوية وماهر عطار وغيرهم من أصوات المرحلة الرومانسية.