بداية لا بد من تأكيد اهمية انعقاد اللقاء الوطني للحوار الفكري استضافته مكتبة الملك عبدالعزيز العامة تحت رعاية ولي العهد الامير عبدالله بن عبدالعزيز في الفترة من 15 - 18 حزيران يونيو الماضي، والتنويه بالخطاب التوجيهي الذي القاه الامير في جلسة الافتتاح واعتبر وثيقة اساسية من وثائق وتوصيات اللقاء الوطني لما تضمنه من تشخيص وتقويم دقيق لطبيعة التحديات والمشكلات التي تواجه بلادنا في ظل ظروف ومتغيرات وتحديات داخلية واقليمية ودولية وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة في صياغة وتقرير حاضر ومستقبل الوطن واجياله المقبلة. مثّل الاجتماع في حد ذاته خطوة مهمة تصب في اتجاه تصليب الجبهة الداخلية وتعزيز الوحدة الوطنية وارساء تقاليد الحوار السلمي/ المدني المتحضر بين مختلف المكونات والفعاليات والنخب، واعني هنا السلطة المجتمع السياسي والتشكيلات الاهلية المجتمع التقليدي والفئات الحديثة المجتمع المدني بغض النظر عن اختلاف منحدراتها المناطقية والقبلية والمذهبية أو اختلافاتها الثقافية والفكرية، كما يمثل خطوة رئيسية في ترسيخ اسلوب ونهج المصارحة والمصالحة في المجتمع من خلال الاقرار بالتعددية واحترام الآخر المختلف، والقبول بتعدد قراءات الواقع باعتباره ضرورة الراهن والمستقبل، المحاور والاطروحات التي جرى التطرق اليها شملت قضايا وطنية واسلامية ودولية مهمة وجدية رغم ان التوصيات والمقترحات لم تصل اجمالاً الى مستوى العمق والشمول والصراحة التي تضمنها خطاب ولي العهد يفرضه الواقع الموضوعي ومتطلبات الاصلاح الشامل للبنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافة في بلادنا خصوصاً في ظل الظروف والتحديات المستجدة في الداخل وضمن اوضاع اقليمية ودولية متغيرة وغير مستقرة ادّت الى اعادة خلط الكثير من الاوراق والى تبدلات واختلالات خطيرة في موازين القوة والسيطرة والهيمنة وتحديداً في ضوء تبلور الاستراتيجية الكونية الجديدةالقديمة للولايات المتحدة وتطبيقاتها بعد 11 سبتمبر على ارض الواقع وعلى النحو الذي تابعنا وشاهدنا بعض فصولها ونتائجها في افغانستان ثم العراق وما قد ينفذ في اماكن ومواضع وبلدان اخرىسورية، ايران، فلسطين، لبنان في المنطقة والعالم. ومن الواضح أن التداعيات والتفاعلات المختلفة الناجمة عنها ستترك تأثيراتها واستحقاقاتها المباشرة وغير المباشرة على مجمل الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والامنية والثقافية في هذا الجزء الحيوي والمهم، الذي يتسم بالاضطراب والتخلف والاستبداد، والذي تسعى الامبراطورية الاميركية الى فرض سيطرتها وهيمنتها المباشرة عليه من خلال ممارساتها الامبريالية القديمة الجديدة مستندة الى سياسات ذرائعية براغماتية تفتقد الى المبادىء واحترام الشرعية الدولية وتحتقر مصالح الشعوب وحقها في تقرير مصيرها وحماية مصالحها وبناء مستقبلها بصورة مستقلة وذلك وفقاً لمبدأ "لا توجد صداقات دائمة وانما هناك مصالح اميركية ثابتة" المعروف. وبالطبع فإن بلادنا بحكم وزنها وموقعها واهميتها السياسية والاقتصادية والدينية تحظى بأهمية خاصة ضمن هذه الاستراتيجية التي صاغها ويشرف على تنفيذها صقور الادارة الاميركية الذين يمثلون اليمين المحافظ الليبراليون الجدد المتحالفين مع الاصولية المسيحية اليهودية واللوبي الصهيوني والذين يعبرون عن مصالح المجمع العسكري / النفطي الذي بات متحكماً بأنساق القوة والثروة والسلطة في داخل الولاياتالمتحدة ويسعى جاهداً الى إحكام قبضته في مختلف المناطق والبلدان في منزع امبراطوري هجومي الحرب الاستباقية وتوسعي يستخدم بشكل محموم الايديولوجيا الخطاب الديني والقيم الاميركية والاقتصاد قوانين السوق والمقاطعة الاقتصادية والسياسة الديموقراطية وحقوق الانسان والاجتماع قضايا الاقليات الاثنية والمذهبية وحقوق المرأة والامن العولمة العسكرية ودبلوماسية الصواريخ الذكية والاعلام احتكار وتوظيف تكنولوجيا الاتصال والمعلومات والقانون سن قوانين جديدة وتوسيع الاجراءات والصلاحيات لأجهزة الامن والمحاكم الاميركية في داخل الولاياتالمتحدة وخارجها هذه النزعة الامبراطورية تمثل اصولية اميركية تتميز بأنها اصولية ضيقة ومحلية وانعزالية ووطنية متطرفة. فعلى الصعيد الديني تقوم هذه الاصولية على ان اميركا تحمل رسالة آلهية للعالم وهي مستهدفة من الشيطان الذي يأخذ صوراً مختلفة على شاكلة "امبراطورية الشر" ريغان و"الدول المارقة" كلينتون و"محور الشر" بوش الابن وغيرها من التصنيفات وتستند هذه الاصولية الى تنظيرات مثل "نهاية التاريخ" و"موت الايديولوجيا" و"الانتصار النهائي لليبرالية السياسية واقتصاد السوق" فوكوياما والى مقولات "صدام الحضارات" و"صراع الثقافات" هنتنغتون ولتسويق هذه الاستراتيجية العدوانية المستندة الى فرض سياسة القوة والغطرسة والاملاء واستخدام مختلف اشكال الضغط السياسي العسكري والاقتصادي والاعلامي في محاولة مفضوحة لإحكام سيطرتها على البلدان كافة وبخاصة البلدان والمناطق التي تمتلك ميزات استراتيجية الثروات الطبيعية والأسواق والموقع وذلك تحت شعارات وعناوين مختلفة مثل مكافحة الارهاب ونزع اسلحة الدمار الشامل ونشر مبادئ الحرية والديموقراطية وتعميم القيم والمثل الامريكية والدفاع عن حقوق الانسان والمرأة والجماعات والاقليات الاثنية والعرقية والدينية والطائفية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي مصداقية الولاياتالمتحدة في القضايا والشعارات التي تطرحها ازاء العديد من البلدان والمجتمعات وبخاصة البلدان العربية/ الاسلامية في ظل تبني الادارة الاميركية والعديد من الجهات النافذة فيها لها؟ مع ان بين تعهد كوندوليزا رايس مستشارة الرئيس جورج بوش للامن القومي بشأن فرض قيم الحرية والديموقراطية في المنطقة وبين رؤية كولن باول وزير الخارجية الامريكية حول الشراكة الاميركية/الشرق اوسطية والعمل على اقرار اصلاحات سياسية الولاياتالمتحدة تقاطعات "اتفاق وتمايز"، غير ان نقطة الالتقاء هنا هي سعي الولاياتالمتحدة خصوصاً اثر احتلالها العراق وسقوط نظام صدام حسين الى تجميل صورتها واضفاء بعض المصداقية على مواقفها التي تضررت الى حد كبير جراء نهج التصعيد الخطير للمواجهة وتحديها السافر للقرارات والشرعية الدولية وتجاهل اعتراضات معظم الدول والشعوب والرأي العام العالمي. وفي هذا الاطار تندرج "خطة الطريق" التي سوّقها الرئيس جورج بوش وحاول فرضها كأسلوب لحل وتصفية القضية الفلسطينية برمتها مقابل وعود زائفة ووهمية باقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وفي الوقت نفسه تصعد الاداراة الاميركية واللوبي الصهيوني ومراكز التأثير السياسي والاعلامي في داخل الكونغرس الاميركي وخارجه من ضغوطها وتدخلاتها وتهديداتها ازاء سورية ولبنانوايران ودول اخرى من بينها السعودية، وذلك تحت ذرائع وحجج مختلفة يأتي من ضمنها اتهامه هذه الدول بدعم المنظمات الارهابية وتوفير الملاذات والبيئة الحاضنة والمفرخة للارهاب. غير ان وقائع التاريخ تشير الى ان الولاياتالمتحدة لم ترسِ دعائم الحرية والديموقراطية في اي مكان من العالم المانيا واليابان لاسباب خاصة هما الاستثناء الذي يثبت القاعدة ولا ينفيها بل على العكس فإنها سعت الى اسقاط العديد من الانظمة الوطنية والديموقراطية المنتخبة ودعمت انظمة الحكم الاستبدادية والديكتاتورية ونظمت حروب تدخل استعمارية ودعمت انظمة الحكم الاستبدادية والديكتاتورية ودرّبت كتائب الموت والميليشيات المسلحة الارهابية والمتطرفة بما في ذلك بعض الفصائل والتنظيمات الاصولية الاسلامية. صحيح ان الاستبداد والظلم والفقر والتخلف والتبعية تسود في مناطق عدة من العالم ومن ضمنها البلدان العربية والأكيد ان قيم الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان والجماعات اصبحت حقوق غير قابلة للتصرف وقد أقرتها المواثيق والقوانين الدولية كافة واصبحت بالتالي معايير وقيم ثقافية وانسانية وحضارية مشتركة وملزمة للجميع. اننا نعيش في زمن العولمة التي تتسم بالتداخل والتشابك والاندماج على صعيد الانتاج والتبادل والتجارة والمال وفي ظل الثورة العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية والاتصالية على نحو غير مسبوق مما ادى واقعياً الى الغاء الحدود بين الدول وتقليص الدور السيادي للحكومات وتجنيس وتنميط العالم وفقاً لمصالح قوة عظمى وحيدة الامركة تسعى الى فرض سيطرتها وهيمنتها على العالم وهو ما حفز ويحفز الممانعة والمقاومة والتصدي لدى العديد من البلدان والمجتمعات والشعوب في مختلف انحاء العالم التي ترى ضرورة المحافظة على هويتها وخصوصيتها الثقافية وحماية مصالحها وثرواتها واختيار طريق تطورها الديموقراطية المستقل ضمن الحضارة الكونية المشتركة... * كاتب سعودي.