حين تفتقر سلطةٌ الى أزمة تكبح جماحها - كحال السلطة في بلاد عرب اليوم - تتحول الى تسلط وبغي واعتساف. وليست الأزمة الكابحة شيئاً آخر، في نظام الدولة العصرية، سوى النظام التمثيلي المؤسسي والنظام الرقابي الشعبي، اللذين يمارسان الاحتساب القانوني والدستوري عليها، فيحدّان من سلطانها على المجتمع والناس. السلطة في البلاد العربية لم تنفكّ عن أن تقدم نفسها - وحتى إشعار آخر - بصفتها ملكية خاصة للحاكم بأمره ومرتع انتفاع لصحابته وآل بيته! صاحب السلطة زمامها الوحيد، وهو - مهما اعتسفت - لا يأخذ بناصيتها، ان اقتضاه الحال ذلك، الا لكي يحمي سلطانه السياسي. أما "الرعية" فلا شأن لها بأمور السياسة والرياسة المخصوصة لأهلها دون سواهم. ذلكم - بلا زيادة ولا نقصان - حال السلطة في بلاد عرب اليوم. فلنفحص بعضاً من أسباب استواء امرها على مقتضى هذا الانغلاق من كل ضابط. لا تنشأ الديموقراطية، كعلاقة ناظمة للاجتماع السياسي وللاجتماع المدني، الا في المجتمعات التي تكوَّن فيها مجالٌ سياسي كمجال عمومي مفتوح للمنافسة الاجتماعية، بما فيها المنافسة على الحيازة الشرعية للسلطة، أو من اجل المشاركة فيها. والمجال السياسي ذاك ينهض بأكثر من وظيفة في سياق نظام اشتغال الدولة والكيان. فإلى كونه يفتح أمام مختلف القوى الاجتماعية والسياسية امكانية التعبير الحُرّ عن مواقفها ومطالبها، وامكان المنافسة الشرعية على كسب الرأي العام وتمثيله في المؤسسات، وامكان المشاركة في الحياة السياسية وفي ادارة السلطة نفسها، ثم امكان ممارسة الرقابة - الشعبية والتمثيلية والقضائية - على النخب الحاكمة وعلى سياساتها...، فإنه ينظّم التدافع الاجتماعي والصراع الطبقي والسياسي في أطر مؤسسية، وبمقتضى قواعد ضابطة، تمنعها من الإفصاح عن نفسها من خلال العنف، وتجعلها منافسة سياسية مشروعة وشرعية تتوسل بأدوات السياسة بمعناها العصري، اي بالحوار الديموقراطي والاقناع وما في معناهما. والحاصل ان ما ينجُم عن ذلك التنظيم، حكماً، هو تأسيس السياسة على مقتضى الشرعية الديموقراطية، وصون الحياة الوطنية والاستقرار السياسي والسِلم المدنية عن مغامرات الاصطراع الأهلي الذاهب الى تحصيل المطالب من طريق العنف غير الشرعي - بالمعنى الفيبري - والذي قد يطوّح الاجتماع الوطني إن اشتدت وطأته كما تقيم الدليل على ذلك تجارب مجتمعات كثيرة شهدت ألواناً مختلفة من الحروب الأهلية انفلتت فيها الفتنة، وغرائز القتل، من كل عِقال. ومن نافلة القول إن مثل هذا المجال السياسي الحديث، وهو رحم الحياة الديموقراطية وحُضنها، لا ينشأ عفواً من دون "تقديم مقدمات وتمهيد أصول" - كما يقول الأصوليون الفقهاء - ولا ينشأ بقرار من نخبة حاكمة وإن كانت رشيدة، بل يأتي تكوينه ثمرة سيرورة موضوعية من التحولات والتراكمات تساهم فيها قوى المجتمع كافة. ومن العبث حصر المسؤولية عن غياب هذا المجال السياسي الحديث في النخب الحاكمة والنظم القائمة، على عِظَم مسؤوليتها. * كاتب مغربي.