قبل ان تعاني انقطاعاً تاريخياً للكهرباء باسبوعين، وصلتُ نيويورك عبر مطار "نيو آرك"، الذي يُلقَّب ايضاً ب"مطار الحرية". في الصف الطويل للقادمين، لم تر عيناي كثرة من العرب. انها زيارتي الاولى للمدينة التي خُطِف تاريخ العرب معها ليختزل في حادث ارهاب دامٍ في 11 أيلول سبتمبر. لم يكن غريباً ان ابحث عن عرب غيري. ولم تعطني الصدفة المُرَّة سوى صور على شاشة تلفزيون المطار لأيمن الظواهري ينذر فيها اميركا ب"حرب لاتذر"، تلتها صورة لاسامة بن لادن! نيويورك. نيويورك. مدينة الحداثة في اضخم معانيها وأشدها قوة. بدت المدينة لي وكأنها تقف على الحد الاقصى لما يمكن ان ينجزه الانسان المعاصر. مبانيها اهرامات العصر. ساحة "تايم" فيها هي الاكبر في العالم. تضم الساحة شاشة اعلان الفيديو الاضخم في الارض، تحمل اسم سوق "نازداك"، الذي هو معقل شركات الكومبيوتر. تُنافس شارة النازداك تلك، شاشة قيد الاتمام لشركة "رويترز" تسعى لتكون الاضخم في دول الارض. في وسط المدينة، حي مانهاتن الشهير، حضور كثيف للتكنولوجيا المتطورة، ولكنه ليس مُصطنعاً، بل يحل مرتاحاً ومتناغماً مع المدينة. وفي المقهى مثلاً، قدم النادل شبكة "واي فاي" Wi-Fi، وهي تقنية التخاطب بالصوت مع الانترنت، باعتبارها شيئاً عادياً. وافْتَرَضَ معرفتي باستخدامها باعتباره امراً بديهياً... تيليماتكس IBM وماتريكس في مختبر شركة "أي بي ام" IBM للكومبيوتر، الذي تحتضنه غابات "نيوجيرسي" الخضراء، قُدِّمَت مجموعة من النماذج عن التكنولوجيا التي تمثل اللحظة الراهنة في عالم الكومبيوتر. وقبل بَسّْطِ التفاصيل يجدر القول ان اختصاصيي الشركة شددوا على ان الحدود الحالية في التقدم العلمي تتمثل في تطوير امكانات التخاطب بين الآلات الذكية بعضها مع بعض. وتُقَدِّم تكنولوجيا "تليماتيك" TELEMATIC أو "الحوسبة من بعد"، نموذجاً من هذا الامر. وَقَفَت فتاة تُخاطب "عقل" سيارتها، أي الكومبيوتر الذي يدير السيارة ويتعامل مع صاحبتها. بعد تبادل تحية الصباح بينهما، طلبت الفتاة تحديد أقصر الطرق إلى المطار، فأجابها عقل السيارة بأن رسم لها خريطة حصل عليها عبر "تخاطبه" مع الاقمار الاصطناعية. ثم اعطت الآلة تقريراً مدعماً بالرسوم عن حال السير. وأَعلَمَت الفتاة سيارتها انها ستعود الاسبوع المقبل إلى العمل، فنصحها عقل السيارة بضرورة تأدية مجموعة من الاعمال اثناء عطلتها مع الاهل. استفهمت الفتاة عن مخابراتها الخلوية. جاءت الاجابة بسرد مجموعة من اسماء الذين اتصلوا واولئك الذين تركوا رسائل صوتية. وطَلَبَت الاستماع إلى رسالة خطيبها، فنُقِلَت الرسالة اليها فوراً. وتَلَت الفتاة على "عقل" السيارة رسالة صوتية ترد بها على خطيبها، فتم لها ما أرادت. بعدها، بادر العقل الذكي إلى اعلامها عن تأخير مفاجىء طرأ على موعد اقلاع طائرتها. أبدت الفتاة رغبة في تناول بعض الطعام طالما ان الوقت يسمح بذلك. حصلت من الآلة الذكية على مجموعة من الاختيارات، مع تزكية لمطعم معين تتناسب اسعاره مع ما تبقى من الشطر المخصص للأكل من راتب الفتاة. الخيط الذي يصل كل ما قام به "عقل" السيارة هو قدرته على التخاطب مع الآلات الالكترونية التي تتعامل معها الفتاة. مثلاً دخل إلى بريدها الخلوي وحصل على قائمة الاسماء والرسائل. خاطب كومبيوتراً آخر في المطار وعرف منه تأخر الاقلاع. دخل إلى مذكرتها الالكترونية ليحصل على المهام المتوجب اتمامها، ومن بطاقة الائتمان المالي عرف بما تبقى من الراتب. وهكذا دواليك. لم اكن وحدي الذي اصابه بعض الخوف من الجانب الآخر لهذا التطور. قُلْتُ لصحافي اوروبي ان الامر يذكر بفيلم "ماتريكس"، الذي يتحدث عن نهاية حضارة الانسان بفعل سيطرة الالات الذكية عليها. أبدى موافقة متحمسة. قال انه كان يفكر طول الوقت بفيلم "ماتريكس". وسرعان ما انخرط في نقاش مرير مع الفتاة... معضلة الذكاء البشري إلى أي مدى يمكن القول ان كومبيوتراً يفهم الاعمال اليومية من النوع الذي وصف آنفاً هو كومبيوتر ذكي بمعنى انه يفهم ويعقل ما يردده من معلومات؟ منذ ان دخلت علوم المعلوماتية إلى حدود الذكاء الاصطناعي، ثارت اسئلة مُرَّة. هل تفكر الآلات وتعقل؟ ان فعلت، فماذا تكون علاقتها بالانسان؟ بل من نكون نحن حينها، وكيف يكون تصورنا عن انفسنا؟ من وجهة تطورية، يبدو الامر قاسياً تماماً. فمنذ خمسين سنة، يعمل البشر من دون كلل على تسخير كل ذكائهم من أجل تطوير آلات ذكية. ولم يبذل الانسان أي جهد مماثل في تطوير ذكائه هو بالذات! لا يملك البعض الا ان يحس بالاستفزاز من هذا التناقض. يرسم آخرون بسرعة السؤال المُمِض: كيف يكون المصير اذا صار الكومبيوتر اشد ذكاء من صُنَّاعه؟ في العام 1950، هجس عالم الكومبيوتر البريطاني آلن تورينغ بمسألة محددة هي: كيف نقيس ذكاء الآلات؟ وكيف نقارنها بذكائنا؟ وكتب مقالة شهيرة عنوانها "هل تعقل الآلات"؟ ابتكر تورينغ اختباراً قوامه الحوار بين متحدث بشري من جهة والآلات وبشر آخرين من جهة اخرى، من دون ان يعرف المتحدث من يحدثه. وبمقدار ما يلتبس الأمر على المتحدث في معرفة اذا كان محدثه هو من البشر أو من الآلات، تكون الآلات قد تطورت لتفكر "تفكيراً واعياً". ولا يزال "اختبار تورينغ" هذا عصياً على الكومبيوتر حتى يومنا هذا. والحال ان تورينغ نفسه توصل الى استنتاج ان السؤال عن ذكاء الآلات لا معنى له. انها لا تعقل اطلاقاً. شكلت مقالة تورينغ واختباره نقطة انطلاق علم "الذكاء الاصطناعي" Artificial Intelligenece . ويسود بين اختصاصييه استنتاج مفاده ان اصعب الامور على الكومبيوتر هي الاشياء العادية البسيطة. يؤكد مارفن مينيسكي، اختصاصي الذكاء الاصطناعي في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، مثلاً ان التحدي الاقصى الذي يواجهه هو اعطاء الاآلات حساً عاماً وبداهة في الادراك. هل يمكن ان نذهب الى ما هو اعمق قليلاً، وقليلاً فقط؟ الأرجح ان الآلات الذكية لا تعي المعلومات. وبامكان الكومبيوتر ان يخزن ويرتب المعلومات. ولكن الرقاقة الالكترونية "لا تفهم" المعلومات التي تسري فيها. وفي المقابل، عقل الانسان يعقل ويفكر في المعلومات التي يختزنها ويتداولها. ولكن، يجدر عدم التسرع في الركون الى اي استنتاج في خصوص ذكاء الآلات. فالأمر فيه اخذ ورد. وشهد مطلع التسعينات من القرن العشرين صدور كتابين عن هذا الموضوع. كلاهما من اختصاصي في الذكاء الاصطناعي في معهد ماساشوستس. واعتبر دافيد شالمز، في كتابه "العقل الواعي" ان البشر لديهم ذكاء شديد الخصوصية، ولا يمكن تقليده. وبالضد من ذلك، اصَرَّ دانييل دانيت، في كتاب "الوعي مُفَسَّراً" على القول بسقوط اللغز عن ماهية التفكير. ترى ايهما الاصوب؟ وهل يمكن دفع النقاش خطوة اخرى الى الامام والسؤال عما اذا بامكان ذكاء البشر بحد ذاته ان "يفهم" نفسه بنفسه! تلك الاسئلة هي مدخل الى نقاش طويل.