بلند الحيدري 1926-1996 واحد من أصفى أصوات روَّاد قصيدة الشعر الحر في العراق، أسهم في تأسيسها، والدفاع عنها، وتأصيلها، ولم يتوقف عن الإضافة إليها طوال حياته، فكان اسمه - إلى جانب بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي - علامة حاسمة على الحضور الطليعي للشعر الحر، سواء من حيث جسارته الإبداعية التي باعدت بينه وبين التقالىد التراثية الجامدة، أو من حيث جسارته الفكرية التي وضعته في مواجهة شروط الضرورة، خصوصاً بمعانيها السياسية الخطرة. ولم يكن من المصادفة - والأمر كذلك - أن يموت السياب مريضاً في المنفى سنة 1964، وأن يشترك الحيدري والبياتي في الفرار من نظام صدام، فينتهي الأمر ببلند إلى الإقامة في لندن منذ الثمانينات، ويموت ويدفن فيها، ويتنقَّل البياتي ما بين المنافي، إلى أن يستقر به المقام في دمشق الى أن يموت ويدفن فيها 1999 بعد وفاة بلند بثلاث سنوات. وقد كان بلند الحيدري أسبق من زميله البياتي المولود معه في العام نفسه في اكتشاف ما وراء القناع البعثي لنظام صدام، فعاد إلى المنافي التي عرفها من قبل، وكتب عنها ديوانه "خطوات في الغربة" 1965، وانتقل من "أغاني الحارس المتعب" 1973 إلى الكتابة عن بيروت التي استعادها في منفاه الإنكليزي، عبر ديوانه "إلى بيروت مع تحياتي" الذي نشرته دار الساقي في لندن 1989. وتأمّل صور وطنه الواقع في براثن النظام الصدامي، خلال ديوانيه الأخيرين: "أبواب إلى البيت الضيق" الذي نشرته دار رياض الريس في لندن 1990، و"آخر الدرب" الذي نشرته دار سعاد الصباح مع الأعمال الشعرية الكاملة في القاهرة سنة 1993. و"البيت الضيق" هو الوطن الجمر الذي ضاق بأحراره، وانقلب إلى سجن كبير وساحة للإعدام، وتحوَّلت ذكرياته إلى ذكريات للقيح والعفن والأشباح السود ورصاصات الاغتيال والقنابل الكيماوية، خصوصاً تلك التي ألقيت على مدينة "حلبجة" في كردستان العراق، فقضت على الآلاف من الأبرياء في السابع عشر من آذار مارس سنة 1988، فكتب عن مأساتها بلند قصيدته "لكي لا ننسى" في ديوانه الأخير "آخر الدرب" الذي كان الذروة الأخيرة لتتابعات "البيت الضيق". أقصد إلى ذلك المجاز الذي صاغه بلند الحيدري عندما أكَّد في إحدى قصائده أنه ممسوس بمعرفة أن السجن وساحات الإعدام، ومنافي الغربة والآلام، وحقائبه المرميّة على أرصفة الأعوام هي البيت. وكانت بغداد في ديوان "البيت الضيق" خارطة للكذب، مدينة تطرد عاشقيها، وتدفع زبانيتها إلى تجريدهم من كل شيء، حتى من حلم ألا يولدوا في جرح متقيّح، وكانت بغداد "المدينة التي أهلكها الصمت" في القصيدة التي تحمل العنوان نفسه، فهي المسبية، المنسية التي ماتت من جرح فيها، من خرس أعمى شلَّ لسان بنيها، ومن كابوس مرعب، أحالها إلى سجن يلتف بجدران سود وأسوار، يحميه عسس وبصاصون ومخبرون ووشاة ومحقِّقون وجلاَّدون، فلا يبقى سوى الصمت أو الموت: الصمت الذي يعني المنع من التفكير، من البوح أو الشكوى أو النطق أو الصراخ أو النظر أو السمع. والموت الذي يبدأ من إهدار إنسانية الإنسان الذي ما أسهل أن يغدو جثة بين مئات أو آلاف الجثث، في مقبرة فردية أو جماعية مجهولة الاسم أو العنوان. وكان صدام سجَّان بغداد وجلاَّدها الذي لم يجرؤ بلند على الإشارة المباشرة إليه إلا في ديوانه الأخير الذي نشره بلند قبل ثلاث سنوات من وفاته، وبعد أن تكاثرت سنوات المنفى، وامتدت إلى ما بدا بلا نهاية، وبعد أن تقلَّصت أصابع صدام المفترسة الطويلة العابرة للقارات، خصوصاً بعد الهجوم الأول للتحالف الدولي على العراق في كانون الثاني يناير 1991، ومحاصرة النظام الصدامي الذي ظل يقاوم إلى النهاية. عندئذ، تحرَّر بلند الحيدري من خوف الاغتيال الذي كان كمقصلة الإعدام الجاهزة للانقضاض على المعارضين حتى في المنافي البعيدة. وبدأ يكتب عن صدام، صانعاً له ثلاثة تمثيلات رمزية، كان في أولها مختفياً وراء قناع "الحجَّاج" بينما اختفى الشاعر وراء الضحية سعيد بن جبير في قصيدة "عودة الضحية". وكان في ثانيها "ليونيتوس" الذي أخذته شهوة التمتع برؤية جثث القتلى، فصاح وهو يفتح عينيه بأصابعه: "هلمّي أيتها العيون الناعسة، وتمتَّعي بهذا المنظر الشهيّ"، وذلك على نحو ما نقرأ في قصيدة "اعتذار". أما التمثيل الثالث فيبدو فيه صدام في هيئة "أبرهة الأشرم" وهو السفاح الذي تدور حوله قصيدة "أأعود لمن...؟!". والتمثيل الأول تمثيل مألوف في الشعر الحديث عموماً، والشعر الحرّ خصوصاً، وهو يرتبط بالثنائية المتضادة بين المبدع والسلطان الجائر، الثنائية التي ابتدأت بقصيدة إيليا أبي ماضي في الثلاثينات عن "الشاعر والملك الجائر" ولم تتوقف عند أدونيس الذي كتب - في "المسرح والمرايا" 1968 - عن "تيمور ومهيار". والأول قناع للسلطان الجائر بديل دبشليم والثاني قناع المبدع: الشاعر - الحكيم بديل بيدبا. وقد بدأ بلند من هذا التمثيل الذي أتاح له المقابلة بين صوته الذاتي الذي اختفى وراء قناع سعيد بن جبير الذي لم يخش بطش الحجاج فصفعه بالحقيقة، غير عابئ بحكم الحجاج عليه بالموت، وكانت النتيجة أن أصبح رمزاً متكرراً لصاحب الكلمة التي تخشى البطش، بينما أصبح الحجاج قناعاً متكرراً لعشرات الوجوه الوحشية التي أضاف إليها بلند وجه صدام حسين، ولكن على نحو درامي يجعلنا في حضرة الصوتين المتقابلين، المتعاديين اللذين يعني حضور أحدهما غياب الآخر. هكذا، يغدو الحجَّاج صدام حضوراً وحشياً، يضيء دروب الحي بعيني جلاد أو سجان، حضوراً يمتد بأرضه من عتمة آلاف القبور إلى آلاف الأمكنة، في زمن محكوم بزمان يلتفّ عليه الطاغية طحالب صفراً كالبهتان، أو سيفاً يقطع كل لسان. ويبقى صوت ابن جبير بصفته صوت الإبداع الجسور الذي يظل هنا، وهناك: وفي ألف مكانْ وعدا... رعدا... غيما مطر تخضرُّ به النَّعمى من زمن مجهول. أما التمثيل الثاني الذي يغدو فيه صدام صورة أخرى من ليونيتوس السفاح الذي تتلذذ عيناه برؤية جثث القتلى، متلمّظة من شهوة الدم، فهو تمثيل من ابتكار بلند الحيدري الذي حرص منذ البداية على أن يشير الرمز إلى مرموزه مباشرة، وأن ينتقل من الرمز إلى ضحيته التي تنطق القصيدة صوتها، واصفة واقع الحال الذي قضى على كل إمكانات الخصب، فلم يعد في بغداد غير سورها القديم، وصمتها الدميم، وكذبة المذيع في نشرة الأخبار، بل كذبة المخدوعين الذين يقتاتون بالوهم صباح مساء: فليس في بغداد بحر ولا درٌّ ولا جزيره وليس غير ظِلِّنا ما يحجبُ الشَّمسَ عن المدينة الصَّغيرهْ وليس غير ذلّنا الغارق في السواد في كذبة كبيرهْ كالبحر كالدرّ وكالبعث وكالميلادْ. وبالطبع يمكن أن نقرأ "البعث" في السطر الأخير بمعناها المعتاد المقرون بالولادة الجديدة، أو بمعناها المخصوص المقرون بالحزب الذي أحاله صدام إلى مصدر للموت الذي يجيء كالميلاد في ما تقول القصيدة. وآخر التمثيلات تمثيل أبرهة الأشرم الذي يعيدنا إلى ثنائية الحاكم الطاغية والمثقف الذي لا يكف عن المقاومة، مهما كان المصير. والممثَّل به هذه المرة هو أبرهة الحبشي الذي غزا الكعبة، ولم يرعَ حرمتها، فكان في ذلك دماره. ووجه التمثيل هو الطغيان الذي يؤدي إلى الاعتداء على الحرمات والمحرَّمات والمقدسات في آن، الاعتداء الذي هو الوجه الآخر من براثن البطش التي لا تتوقف عند حد أو تراعي أي شيء. وطبيعي ألا نسمع صوت أبرهة في القصيدة، فالأهم من صوته هو صوت ضحاياه التي يدعوها إلى نسيان ما فعل بها. ولذلك نسمع صوت الضحية التي تنوب عن جميع الضحايا في المنافي العديدة، معلنة الاستجابة إلى دعوة أبرهة - صدام الخادعة. وكان صدام طالب العراقيين الفارّين من نظامه إلى العودة، داعياً إلى فتح صفحة جديدة. ومن الواضح أن أحداً لم يصدقه، نتيجة ما سبق من فعاله، فقد كان حال المغتربين قسراً في المنافي أشبه بحال من يقول: كيف أصدّقك، وهذه آثار فأسك؟! ولذلك تأخذ القصيدة شكل مونولوج، يتوجَّه به صوت الضحية إلى جلاّده الذي يدعوه إلى فتح صفحة جديدة ونسيان الماضي. وتبدأ القصيدة بسؤالىن جارحين، يحملان معنى الإجابة: ماذا أبقيت لأهلك يا أبرهة الأشرمْ...؟! غير ظلال عمياء تجوسُ زوايا الحي المهجورهْ وغير ليالٍ سودٍ تتآكلْ ما بين الوحل وبين الدّمْ. يا أبرهة الأشرم ماذا أورثنا دمنا المطلول على مدِّ الأيام لعام الفيل أكثر من وجهك محفوراً في عيني امرأة ثكلى ودماءِ قتيلْ. وتعود القصيدة إلى تأكيد المعنى الحاسم للإجابة بالأسئلة الاستنكارية التي تسأل عن العودة إلى من؟! جثة طفل ميت؟ كومة أحجار مسخت أطلالاً، تجهش في الصمت؟ بقية خدعة؟ جرح ممتد ينزف صديداً أو قيحاً؟ ولا نصل إلى المعنى الحاسم للأسئلة الاستنكارية إلا بعد تأكيد الحضور الدائم للمنفى الذي لا يخلو من الرعب، ولا خلاص منه إلا بالحلم بزمن آخر، هو زمن الخلاص: ها إني إذ أحمل رجليّ بكفيّ وأهربُ من بعضٍ فيّ إلى بعضي أتلمَّس في زمن آخر عمراً لن يعرف وجهك في الجرمِ ولا في البغضِ. ولن يتحقق هذا الزمن إلا بموت أبرهة الأشرم الذي تغلغل في قرارة الأعماق التي لم تخل من الرعب قط، فموت أبرهة الأشرم حياة لزمن نقيض، أو بداية لزمن تنتهي معه مرارة الغربة وذلّها وذاكرتها العمياء. لكن هذا الزمن لم يدركه بلند الحيدري فمات غريباً في لندن، لكن لم يمت معه الحلم الذي ظل كالطير المأسور في قصائده الأخيرة.