تشير أرقام منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الى أن أكثر من 75 في المئة من الشركات المسجلة في الدول الصناعية ما زالت شركات عائلية، وهذه لا تقتصر فقط على الشركات المتوسطة أو الصغيرة الحجم، بل تشمل الكبيرة منها، اذ أن نحو ثلث الشركات الخمسمئة الكبرى في الولاياتالمتحدة بحسب مجلة "فورتشن" ما زالت تسيطر عليها العائلات التي أسستها. ففي إيطاليا ما زالت العائلات تسيطر على 43 من أصل أكبر 100 شركة في البلاد مقارنة ب26 من أصل أكبر 100 شركة في فرنسا و17 في ألمانيا. وتوفر الشركات العائلية فرص عمل لحوالى 50 في المئة من القوى العاملة في العالم الصناعي، كما أن العديد من الشركات المدرجة في الأسواق المالية العالمية ما زالت تديرها العائلات التي قامت بتأسيسها قبل أعوام عدة. والأمر لا يختلف كثيراً في المنطقة العربية، إذ لا تزال الشركات العائلية تسيطر على العديد من النشاطات الاقتصادية. وفي الغالب كانت بداية أعمال الشركات العائلية في المجالات التجارية والعقارية، ولكنها وسعت نشاطاتها لتشمل الصناعة والبنوك والتأمين وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وغيرها. ومع أنه لا توجد في المنطقة العربية إحصائيات دقيقة عن عدد الشركات العائلية، إلاّ أنه يمكن القول بأن أكثر من 90 في المئة من الشركات الخاصة في المنطقة لا تزال مملوكة بالكامل من قبل أفراد أو عائلات. في الغالب يكون الهدف الرئيسي المعلن للشركات العامة المدرجة في أسواق الأسهم هو تعظيم العائد على حقوق المساهمين، أما في الشركات العائلية فهناك أهداف أخرى تسعى إدارة هذه الشركات إلى تحقيقها والتي تشمل على سبيل المثال تحقيق رؤية الأب المؤسس لهذه الشركة، أو الحفاظ على الوظائف القيادية في الشركة لأفراد الأسرة والابتعاد قدر الإمكان عن الأعمال التي تستدعي الكثير من الإفصاح والشفافية المالية والدخول في أعمال جديدة تحقق طموح وتطلعات أبناء العائلة. وهناك شعور سائد لدى القائمين على هذه الشركات أن مهمتهم هي الحفاظ على الشركة وتعزيز قدراتها وربحيتها لكي تكون بحالة أفضل عندما يتم تسليمها إلى الجيل القادم من الأبناء والأحفاد. وفي الغالب نجد أن إدارة الشركات العائلية هي ذات طبيعة محافظة تعتمد بشكل أكثر على التمويل الرأسمالي منه على الاقتراض من البنوك، وتعمل ضمن خطة زمنية أطول لتحقيق الربح بدلاً من التركيز على النتائج الفصلية أو نصف السنوية التي تستهدفها الشركات العامة. وفي دراسة نشرت هذا الشهر في مجلة التمويل "جورنال اوف فاينانس"، التي تصدرها جمعية التمويل الأميركية، تمت مقارنة أداء عدد من الشركات التي تمتلك العائلات نسبة كبيرة من أسهمها مع شركات عامة أخرى وجميعها مدرجة في سوق الأسهم الأميركية. وباستخدام مزيج من المعايير المحاسبية ومؤشرات تقويم أسعار أسهم هذه الشركات، استنتجت الدراسة أن الشركات التي تسيطر عليها العائلات حققت معدل ربحية فاق ما حققته الشركات العامة الأخرى بنسبة 6.5 في المئة. كما أن العائد على الاستثمار في أسهم الشركات التي تمتلك العائلات نسبة كبيرة منها جاء أعلى بنحو 10 في المئة من الاستثمار في أسهم الشركات الأخرى. وتنتهي الدراسة بالقول ان الشركات التي تسيطر عليها العائلات المؤسسة لها يكون تركيزها أكثر على النمو والأداء المستقبلي منه على تحقيق الأرباح الآنية، سواء فصلية أو نصف سنوية، وأنها بالتالي تنتهي بتعظيم العائد على حقوق المساهمين على المدى البعيد. وهناك العديد من التحديات التي تواجه الشركات العائلية اليوم والتي لا بد من التعامل معها بالطرق المناسبة، منها ما هو داخلي يتعلق بالخلاف الذي قد ينشأ بين الأب وأولاده في ما يتعلق باستراتيجية العمل وطريقة الإدارة وغيرها، والتنافس بين الأولاد الذي غالباً ما ينشأ عندما تحين خلافة الأب المؤسس للشركة، وعندما تضطر الشركة لاتخاذ قرارات مصيرية مثل الاندماج أو حيازة شركات أخرى أو طرح أسهم الشركة للاكتتاب، أو الاستعانة برئيس تنفيذي وإدارة متخصصة لتشرف على الشركة ضمن غيرها من التحديات والمشاكل. وهناك أيضاً تحديات خارجية مثل المنافسة المتنامية التي أصبحت تواجهها هذه الشركات مع انفتاح الأسواق المحلية بعد أن كانت هذه الشركات تعمل لسنوات في أجواء الحماية والدعم، وهناك أيضاً زيادة متطلبات الإفصاح والقواعد المحاسبية الجديدة والتي أصبحت الشركات العائلية مضطرة للتقيد بها لتسهيل تعاملها مع البنوك والشركات الأخرى التي تستورد منها أو تصدر لها. ويتوجب على الشركات العائلية أن لا تكون أسيرة الماضي في تعاملها مع هذه التحديات، بل عليها أن تضع موضع التنفيذ العديد من السياسات والإجراءات التي تساعدها على التأقلم مع التغيرات المستجدة. ومع الوقت سيرتفع عدد الشركات العائلية التي ستعيد هيكلة نفسها لتصبح شركات مساهمة خاصة كخطوة أولى قبل التحول إلى شركات مساهمة عامة مدرجة في سوق الأسهم. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن معظم الشركات العائلية تدرك المشاكل التي تواجهها والتغيرات المطلوب إدخالها، غير أن التحدي الأهم ليس في عدم إدراك وفهم هذه المشاكل بل في وجود الرغبة والقدرة على مواجهتها واتخاذ قرارات استراتيجية في هذا الخصوص. ما زالت فكرة طرح أسهم شركة عائلية ناجحة للاكتتاب الأولي في السوق المالية غير مقبولة بشكل عام وينظر إليها على أنها اعتراف بأن الشركة المصدرة للأسهم لا بد أنها تمر بصعوبات مالية، وبأن العائلة المالكة لها أصبحت غير قادرة على إدارتها ولم يعد أمامها من حل سوى طرح جزء منها للبيع. كما أن طرح الشركة للاكتتاب العام يثير المخاوف المتعلقة بالإفصاح والسيطرة، إذ يخشى أن متطلبات عملية الإدراج في سوق الأسهم قد تكشف عن ثروات شخصية لمالكي الشركة كانت حتى ذلك الحين غير مفصح عنها. وهناك مصدر قلق آخر ألا وهو أن بيع الشركة العائلية لمستثمرين غير معروفين قد يُفقدها هويتها وقيمها الأساسية التي طالما عملت العائلة على تعميقها. وهناك خشية من أن يقوم منافس قديم أو شركة عملاقة، محلية أو دولية، بالاستحواذ على الشركة العائلية عن طريق شراء أسهمها في السوق ومحو كل ما له صلة بالعائلة التي أسست الشركة. أكثر الشركات العائلية قدرة على طرح أسهمها في السوق هي تلك التي استفادت من وجود إدارة واعية ومتمرسة على رأسها، والتي تتبع معايير الشفافية، ووضعت استراتيجية توسعها عن طريق توزيع المخاطر ودعوة مساهمين آخرين للمشاركة. فالعديد من الشركات العائلية التي تحتاج إلى التمويل الإضافي للتوسع أخذت تفكر في إشراك مجموعة جديدة من المستثمرين بدلاً من الاقتراض كما هي الحال الآن. كما أن المشاريع المشتركة قد تكون هي الطريق إلى أمام، والانتقال الطبيعي يكون من شركة عائلية بملكية كاملة إلى ملكية جزئية في شركة أكبر مع مجموعة من الشركاء الذين يخططون بطريقة استراتيجية متشابهة. تمثل "مجموعة الزامل" في المملكة العربية السعودية نموذجاً يُحتذى به من قبل الشركات العائلية الأخرى في المنطقة. فهذه المجموعة التي تملك بعض أنجح الشركات الصناعية والخدماتية في المنطقة، قررت أن تتحول إلى شركة عامة عام 1998، وتم تأسيس "شركة الزامل الصناعية الاستثمارية" كشركة مساهمة مشتركة، واحتفظت العائلة بنسبة 60 في المئة من الشركة وتم طرح الباقي للمستثمرين المحليين والخليجيين، وقد مكن رأس المال الإضافي هذه المجموعة من التوسع ودخول أسواق جديدة إقليمية وعالمية. ومع اكتساب أسواق الأسهم في دول المنطقة المزيد من العمق، تصبح عملية الاكتتاب العام الأولي في السوق أحد الخيارات المتوفرة للشركات العائلية التي ترغب في بيع جزء من شركتها إلى مستثمرين جدد أو زيادة رأس مال الشركة. أضف إلى ذلك وجود مؤسسات تعمل في مجال بنوك الاستثمار وتستطيع توفير الخدمات التي تتطلبها عملية إصدار الأسهم كافة، بما فيها إيجاد القيمة العادلة للشركات والاكتتاب في الأسهم المصدرة وتسويقها. وهناك استراتيجية اتبعتها شركات عائلية عدة تقوم على تأسيس شركة قابضة تمتلكها العائلة وتكون لها استثمارات في شركات مختلفة يتم إدراج بعضها في سوق الأسهم عندما تصل مرحلة النضوج، في حين تبقى شركات أخرى تحت سيطرة الشركة القابضة حتى تتحسن ربحيتها. إن التطور الطبيعي للشركات العائلية هو أن تتحول عند وصولها مرحلة النضوج إلى شركات عامة مدرجة في سوق الأسهم تدار من قبل مدراء متخصصين، وتبقى العائلة التي أسست الشركة مالكة فيها بنسب متفاوتة وتتم المحافظة على العلامات التجارية المميزة والرؤية التي وضعها مؤسس الشركة وذلك لسنوات مقبلة عدة. * الرئيس التنفيذي جوردانفست.