في العام 1988 حقق مارون بغدادي فيلم "مارا" الذي عرضته التلفزة الفرنسية وسط الاحتفالات بالذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية. ولم يكن ذلك صدفة بالطبع، اذ ان الفيلم الذي أنتج ضمن إطار سلسلة افلام حملت عنواناً رئيساً هو "ثنايا الثورة" يتحدث عن مارا، احد ابطال تلك الثورة. عن حياته وتعقيداتها وكيفية انتمائه الى العمل الثوري ومقتله في نهاية الأمر على يد شارلوت كورداي. وفي هذا الفيلم خرج مارون بغدادي اخيراً، وللمرة الأولى، من عباءة لبنان والحرب اللبنانية، بعد انغلاق طال امده داخلها. ولكن هل تراه خرج حقاً؟ قتل الأب كان "مارا" فيلماً عن الثورة الفرنسية وعن احد ابطالها. ولربما كانت الصدفة هي التي جعلت الاختيار يقع على مارون بغدادي لكي يقوم بإخراج الفيلم. كان من الممكن، بالطبع، ان يتم اختيار اي مخرج آخر. والحال ان السلسلة نفسها تتألف من حلقات حققها مخرجون عديدون معظمهم من اصحاب الأسماء الكبيرة في السينما الفرنسية. ومن هنا فإن الصدفة جعلت "مارا" من نصيب بغدادي. ولكن إذا كان لعبارة "صدفة سعيدة" من دلالة واقعية، فإن هذه الدلالة تبرز بكل زخمها من خلال هذا الاختيار. فإذا كان في وسع المرء ان يدهش اول الأمر قبل مشاهدة الفيلم متسائلاً: "... ولكن ما دخل مارون بغدادي بثنايا الثورة الفرنسية وخفاياها وألعابها ومجرميها؟" فإنه ما ان يشاهد الفيلم ويصل الى المشهد الأخير منه حتى يجد نفسه قادراً على فهم بعض الأمور في شكل اوضح، حيث سيخيّل له وكأن مارون بغدادي، في المشهد الأخير من الفيلم، اعاد ثريّا بطلة "حروب صغيرة" وجعلها توجّه هنا الى مارا، وهو في "البانيو" تلك الطعنة التي كان من شأنها ان توجهها الى طلال في مشهد اخير من "حروب صغيرة". أو لنقل، من ناحية ثانية، ان المشهد الأخير ربما كان حمّل جريمة قتل الأب مارا كأب للثورة تقتله الثائرة الخائنة شارلوت كورداي طقوسية ظل طلال نفسه يحوم من حولها وهو يحاول ان يقنع نفسه وأمه بأن أباه المخطوف قد مات وانتهى في "حروب صغيرة" نفسه. ولكن لماذا نركّز على هذا في حديثنا عن مارون بغدادي؟ ببساطة لأن قتل الأب وصل هنا الى بعد طقوسي، يكاد يكون هندسياً. من دون ان يعني هذا بالطبع ان "مارا" هو مجرد استمرار ل"حروب صغيرة" عبر تحقيق مشهده الأخير لما عجزت ثريا عن تحقيقه في "حروب صغيرة"، مثلاً. ومن دون ان يعني ان بغدادي حقق عبر "مارا" فيلماً ذاتياً آخر، هو مؤلفه، بل بالعكس، سيبدو لنا "مارا" فيلماً محققاً تحت الطلب انطلاقاً من حكاية جاهزة سلفاً، عن شخصية حدد لها التاريخ اكثر من صورة ممكنة، وعن سيناريو كتبه اديب فرنسي معروف، هو دانيال بولانجيه، ليس من شأنه - في اي حال من الأحوال - ان يرضى بأن يكون مجرد ظل سينمائي شاب آت من لبنان همّه "ان يعلّم الفرنسيين كيف يصنعون فيلماً حقيقياً عن ثورتهم" وهذا الكلام الأخير ليس من عندنا، بل ننقله في شكل يكاد يكون حرفياً، عن ما قالته صحيفتا "لوموند" و"ليبراسيون" عن الفيلم. قاذورات صحيح ان "مارا" هو في المقام الأول، فيلم عن الثورة الفرنسية - وذلك هو مبرّر وجوده على الأقل - فيلم يتناول تلك الثورة عبر واحد من ابطالها، عبر "مارا" ابن الشعب البار كما كان يصفه اولئك الذين أسبغوا على الثورة وتقلّباتها آيات البطولة وجعلوا مساواتها جزءاً من ضرورات الحتمية التاريخية، و"المحرّك الأول للإرهاب الثوري القاتل": في نظر اولئك الذين وجدوا في مارا كما في روبسبيير، كما في دانتون، حججاً تساعدهم على إسباغ هالة قدسية على مواقفهم المعادية للثورة. وهنا لا بد من ان نفتح هلالين لنشير، ايضاً الى ان فكرة تقديم حدث جماعي مهم، عبر شخص يجسّد هذا الحدث، طبعت معظم افلام مارون بغدادي. ومن يعرف بغدادي جيداً يعرف ان هذا المبدأ رافق ليس فقط مسيرته السينمائية، بل ايضاً مسيرته السياسية وربما الحياتية، إذ لم يكن من النادر له ان ينظر الى الأحداث الكبرى، في آلامها وتقلّباتها، عبر مرشّح دائم هو شخص يحلّ لديه مكان الأب أو الأم أو "الأخ الأكبر". ونقفل هنا هذين الهلالين، لننتقل الى مارا نفسه فنلاحظ ان الصورة التي يقدمها دانيال بولانجيه ومارون بغدادي لهذا الثائر الشهير، لا تنتمي مباشرة الى اي من الصورتين المعهودتين عن مارا: صورة اليسار المبجّلة له، وصورة اليمين المدمّرة له. مارا هنا هو مزيج من الصورتين، بل هو بالأحرى، الصورتان متماهيتان تماماً، وقد عرف صانعا الفيلم كيف يخرجان بها من كتب التاريخ، الى هشاشة الحياة. مارا هنا إنسان يحمل تناقضات البشر، عيوبهم وأحزانهم، خوفهم وبطشهم، نهمهم وتحفّظهم. بل، وأكثر من هذا، يحمل الى حد الإفراط كل تلك القدرة على ان يكون وحشاً وحنوناً في الوقت نفسه. مارا المرسوم هنا، ليس البطل الثوري فقط، بل هو الطفل الذي تربّى على "الطبيعة" وصعقه الجنس منذ بداية حياته، وعاش كل نجاحاته، انطلاقاً من خيبته وإخفاقه المؤكدين: يطرد من الجامعة الفرنسية فيشتري شهادة الدكتوراه في الطب من بريطانيا، يفشل في ممارسة الجنس انطلاقاً من مركّبات نقص جديرة بأن يحللها فرويد بدائي، فيمارس شتى انواع الشذوذ، وسط اكوام من القاذورات، القاذورات التي تبدأ بجلده الملتهب المصاب بنوع عصي من الاكزيما، وصولاً الى هوسه المجنون بالقتل، وفرحه الطاغي امام الاختراع "الجديد" آنذاك: المقصلة التي يقول ما ان يراها ويطلع على إمكاناتها العجيبة، والابتسامة تعلو شفتيه النهمتين سنقتل بها مئة ألف!". اما الطب الذي هو في الأصل وسيلة لشفاء الإنسان من آلامه، فإنه يتحوّل لدى مارا الى "مجاز"، الى وسيلة للتخلّص من المرض: بالنسبة إليه الشعب مريض ولا يستقيم وضعه إلا بقطع اعضاء فاسدة فيه. بطل ثوري مارا، لكنه يعيش يومه في خوف دائم - هل تراه يختلف في هذا عن كل اولئك الأبطال الثوريين الذين عرف مارون بغدادي قصصهم او عايشها؟ - وخوف مارا ليس من اعداء الثورة بل من رفاقه فيها، من "الجيرونديين" و"الجبليين". يعرف مارا ان الثورة تأكل ابناءها. ومارون يعرف هذا بدوره، وبالتحديد منذ صعقه إعدام سالم ربيع علي سالمين في اليمن الديموقراطي، في اواخر السبعينات من القرن الماضي وهو كان عرفه شخصياً خلال زيارة قام بها لليمن عاد منها شديد الحزن .... هنا، في هذا السياق بالذات، لا يعود من قبيل الصدفة على الإطلاق، ان يحقق مارون بغدادي كل هذا النجاح في تعاطيه السينمائي مع الثورة الفرنسية. ويبدو فيلمه عنها اكثر صدقاً من بقية افلام سلسلة "ثنايا الثورة". فالحال ان زملاء بغدادي من المخرجين الفرنسيين الذين خاضوا التجربة نفسها كان العهد طال بهم كثيراً، عن حقيقة الثورات ومآسيها. بل حتى الذين عرفوا جيداً كيف ان الثورة البولشفيّة - التي كانت بدورها املاً كبيراً للشعب والمثقّفين - انتهت الى أكل ابنائها بعضهم بعضاً فتمكّن ستالين من ان يصفّي كل رفاقه، بمن فيهم تروتسكي، مؤسس الجيش الأحمر. خلال محاكمات موسكو، كانوا قد اعتادوا على إلصاق كل شيء بهمجية ستالين نفسه. اما بغدادي فكانت التجارب الحيّة التي عاشها بنفسه في شرقه الأوسط "اللذيذ" - على حد تعبيره الساخر - ماثلة في ذهنه، من هنا جاء رسمه لمارا صادقاً حياً، وأشبه بأمثولة سياسية. ولكن لا يتعيّن علينا هنا ان نعتقد ان مخرجنا اللبناني جعل من فيلمه عن مارا بياناً سياسياً معادياً للثورة. لقد جعله بالأحرى بياناً عن الخيبة. وهذه الخيبة - بالأحرى هذه المرارة التي تعامل بها مارون بغدادي مع رسالة فيلمه - تتمثل في الوجه الآخر للميدالية: شارلوت كورداي، الفتاة الثورية الآتية من مدينة "روان" والتي - وإن كان الفيلم يستند الى الحقيقة التاريخية ليصور لنا إقدامها على قتل مارا في الحمّام، وذلك تنفيذاً لخطة مرسومة سلفاً من قبل مجموعة من المتآمرين - تتحرك في نهاية الأمر انطلاقاً من دوافع شخصية عنوانها الخيبة. * مقتبس من كتاب... "الحلم المعلق: سينما مارون بغدادي".