إذا كان قيل عن الثورة الفرنسية، دائماً، ان القائمين بها - الى جانب تأثرهم بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السيئة، واندفاعهم ضد فساد الملكية - تأثروا بالفكر التنويري الذي كان يتمثل في كتابات فولتير ودا لمبير وروسو ومونتسكيو وغيرهم، فإن ما يمكن ان يقال ايضاً هو ان الثوار تأثروا ايضاً بالكثير من الأعمال الفنية التي كانت لا تني تحمل تحريضاً على الثورة وحماسة ما بعدها من حماسة. ذلك ان رسامين كثراً كانوا في ذلك الحين، متأثرين بدورهم بالفكر التنويري، او حتى بالفكر الثوري المحض وبحكايات البطولات الرومانية، وغيرها، الى درجة انهم ارادوا من مواطنيهم ان يعيدوا إحياء بطولات التاريخ. ومن بين هؤلاء الرسامين، او في مقدمهم، حتى، في ذلك الحين الرسام جاك - لوي دافيد، الذي كان استشعر الثورة وضرورتها باكراً، وانتمى إليها - بل اصبح من رسميّيها - حين تحققت... وذلك قبل ان تجره تقلبات الثورة وتقلباته الخاصة ايضاً الى الانتماء الى ذلك الذي سيقول عنه اعداؤه لاحقاً انه "مجهض الثورة" اي نابوليون بونابرت. وإذا كنا نعرف دائماً ان دافيد هو الذي رسم معظم اللوحات الكبيرة التي خلقت نوعاً من عبادة الشخصية من حول نابوليون، جنرالاً ثم فاتحاً ثم امبراطوراً، فإن ما ينسى بين الحين والآخر هو ان دافيد قبل انصرافه الى تبجيل الامبراطور على ذلك النوع، الذي ندر ان كان حظي بمثله اي حاكم قبله في التاريخ الأوروبي، كان مسجل احداث الثورة بل ملهمها في رسومه. ويمكن هنا الإشارة الى ان لوحة مبكرة لدافيد هي "قسم آل هوراشيوس" كانت عرضت في العام 1785 في باريس، بعدما أنجزها في روما واجتذبت كل الرومانيين للتفرج عليها والإعجاب بها، فتدافعت الجموع في باريس لمشاهدتها في "الصالون" والشعور بالحماسة ازاء ابناء هوراشيوس الشبان وهم يقسمون على مقارعة الأعداء. والحال ان هذه الرسالة الحماسية الثورية فهمت في فرنسا على نطاق واسع، وسيقال لاحقاً انه كان لها دور في اندفاعة ثورية تالية أسفرت عن اندلاع الثورة الفرنسية الكبرى. ودافيد اعتبر، حتى خارج اطار لوحته تلك زعيماً من زعماء الثورة وعومل منذ اندلاعها على هذا الأساس. وهو خلد احداثها وشخصياتها في بعض اعماله، إذ كان صديقاً متحمساً لروبسبيار، كما كان صديقاً للزعيم الثوري مارا، اضافة الى ان دافيد كان من اوائل الذين صوتوا ب"نعم" على إعدام الملك لويس السادس عشر، كما تحمس لإعدام ماري انطوانيت. وهو كان من اوائل الذين بادروا الى إغلاق الأكاديمية الفنية مطالباً بأن تتم رعاية الفن عبر كومونة فنية ثورية، في الوقت الذي راح يرسم لوحات ذات دلالة ثورية مثل "موت سقراط" و"الناخبون يسلمون بروتوس جثث ابنائه" الخ. اما اللوحة الأشهر لمارا في ذلك الحين فكانت تلك التي ذكّر بها احد آخر مشاهد الفيلم التلفزيوني الذي حققه اللبناني الراحل مارون بغدادي حول مارا، الزعيم الثوري الذي كان صديقاً لروبسبيار والمولج كتابة مناشير الثورة، وكان واحداً من اولى ضحاياها. واللوحة وعنوانها "موت مارا" تمثل في الحقيقة هذا كله في شكل أخاذ لا يمكن نسيانه. اللوحة التي رسمها دافيد في العام 1793، ترينا مارا، مقتولاً داخل حوض حمامه، في يده اليمنى منشور ثوري كان يكتبه، وفي يده اليمنى ريشته، اما بقية ادوات الكتابة فموضوعة فوق علبة خشب خط دافيد اسفلها عبارة "الى مارا" مع توقيعه الخاص. وكان دافيد التقى مارا، الذي كان يعاني في ايامه الأخيرة مرضاً جلدياً مؤلماً، في اليوم السابق لمقتله، وسيقول لاحقاً انه في يوم اللقاء، لمح على وجهه امارات القديسين الشهداء. فمعاناته مع المرض كانت تتواكب لديه مع شعور بأن الثورة لا تندفع بما فيه الكفاية، بل سيكون هناك من يقول لاحقاً، ان احتجاج مارا الأساس كان منبعه ان البطش ليس بعد كافياً للتخلص من كل اعداء الثورة، وأنه يجب الضرب بيد من حديد وهذا الجانب شكل محوراً اساسياً في الفيلم التلفزيوني الذي حققه مارون بغدادي في فرنسا في العام 1989 ضمن سلسلة "ثنايا الثورة" وصور فيه مارا قاسياً بطاشاً يحركه حسه الثوري ولكن ايضاً معاناته مع آلامه الخاصة، غير ان صورة مارا كما تقدمها لنا لوحة دافيد تتنافى مع تلك الصورة المعهودة، حتى وإن كان دافيد نفسه من دعاة البطش ولم يكن ليضيره ان يصور سمات صاحبه على هذا النحو. ومع هذا فإنه صور مارا على صورة القديسين. ولعله بهذا اراد إضفاء طابع شديد الخصوصية على ذاك الذي كان من اول الضحايا بين كبار الثوريين، إذ نعرف ان الشابة شارلوت كورداي هي التي قتلته، إذ جاءت الى منزله، ودخلت عليه زاعمة امام حراسه انها انما تريد ان تنقل إليه تقارير حول الكثير من النشاطات والمؤامرات المعادية للثورة التي كانت تناهت الى سمعها في مدينتها "كان" غربي فرنسا... ولما وصلت إليه وهو في حوض حمامه طعنته بخنجرها حتى قتل. ومن الواضح ها هنا ان دافيد وجد في فعل القتل على تلك الطريقة شيئاً من الطقوسية الدينية، ما جعله يحقق اللوحة ضمن هذا الإطار، الذي كان - في جانبه الميتافيزيقي على الأقل- غريباً الى حد كبير عن اساليبه الفنية الثورية. المهم ان دافيد رسم صورة صديقه وزعيمه المقتول، بسرعة مكرماً إياه على ذلك النحو، وهو في طريقه خلد تلك اللحظة التي كانت تعتبر من اللحظات الانعطافية في الثورة، ذلك انه اذا كان مارا قتل بتحريض من اعداء الثورة، فإن الثورة نفسها هي التي ستقتل بقية زعمائها اسوة بكل الثورات التي تأكل ابناءها، فكانت "الثورة الفرنسية" رائدة ذلك في العصور الحديثة. اما جاك - لوي دافيد 1748- 1825، فإن اياً من الجرائم الثورية التالية لن يحركه تحريك مقتل مارا له، بل انه واصل ايمانه بالتقلبات والزعماء حتى وصل الى نابوليون، بعدما كان اعتقل لبرهة إثر سقوط حامية روبسبيار، وقد وضع دافيد فنه في خدمة الامبراطور. اما بعد هزيمة هذا الأخير في واترلو، فإن دافيد فر الى بروكسل حيث عاش ورسم خلال اعوام حياته الأخيرة.