من تقاليد الشعر العربي إحلال المرأة محل الوطن، لكن الوطن في ديوان "تحيات الحجر الكريم" - الصادر حديثاً عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب" - مذكر غير سالم، ليس لأن كاتبه هو الشاعر المقلق حلمي سالم، أو لإشهاره الإعلان المحدد: "أنا أكتب الذكورة"، وإنما لأن الفعل الذي يعول عليه في الديوان، ومرجعيته الثقافية، مذكر. وإن بدا في قسم كبير منه غير محدد النوع، فأننا سنلحظ سريعاً أن الفعل المؤنث يتراجع ويشحب، إما لاختفائه في لا نوعية الملائكة/الأطفال، وإما لاستئثار المذكر بالمبادرة وقيادة الخطوات. غير أن الأهم، من هذا الالتفات النسوي، هو أن الفعل الُحرّيّ، فعل الوجود الأمثل، يتم باندفاع عفوي من مقيدين، عموماً، بالخطاب الاجتماعي الذي يهدف بالضرورة إلى حيازة السلطة وتنظيمها في تراتب مطرد، ومقيدين خصوصاً بفرع عن هذا الخطاب، هو الديني الهادف، بالضرورة أيضاً، إلى ضبط العلاقات البشرية وتنظيمها، الأمر الذي يفرض الشعور بأن مغزى الوجود لا يتم التوصل إليه إلا بالتحرر الصدامي من تأويل الاجتماعي للديني. ينقسم الديوان إلى ثلاثة نصوص: "بهلول سقط المتاع، "سجادة لصلاة اثنين"، و"تحيات الحجر الكريم" ويتكون الأخير من عشرة نصوص قصار لكل منها عنوان. كُتب نص "بهلول سقط المتاع" في سنة 1993، ولم يدرجه الشاعر في أي من دواوينه الأربعة، التي صدرت منذئذ، انتظاراً فيما يبدو لتوافر السياق المناسب، وكان لهذا الانتظار ما يبرره. فالنص من جانب يفرض حضوره على زمن "سجادة لصلاة اثنين" 1999، و"تحيات الحجر الكريم" 2001، والثلاثة معاً يشكلون صيغة معرفة منتجة لفعل يقف في مواجهة صيغة أخرى تراقب الفعل المنتج وتحاصره. "أراه تحت مجهر/ والفصول تعطي لبعضها الرايات"، هكذا يبدأ نص "بهلول سقط المتاع" وعلى رغم أن الشاعر يقول في هامش متني - أو متن هامشي - إن "البهلول غامض ومغلق الدلالة"، وعلى رغم الإغراء الواضح باعتباره قناعاً للشاعر، أو قناعاً للوطن "البهلول الضَّحاك المحتقر، المُفْرح المُهمَل، الكريم المُسْتَغل، والعزيز الجامع كل خير" يمكن اعتباره قناعاً للشعر الذي شهد تحولات الشاعر والوطن، وتمزق بين الثنائيات العنيدة التي جذبت الاثنين معاً. الشعر سيد النص الأول، وهو كرداء البهلول ليس سالماً، نسيجه من رقع مختلفة المادة واللون ودرجة التماسك والمنشأ، مصنوع بجلب نصوص منجزة من شعر الآخرين وشعر الذات، منذ "حبيبتي مزروعة في دماء الأرض 1974" وهو أول دواوين حلمي سالم، بعد ديوان مشترك مع رفعت سلام. المدى الزمني إذاً يقرب من ثلاثين عاماً، ما يضعنا أمام مجمع أزمنة، زمن العكوف على الفعل اللغوي حال إنجاز النص الجديد، وأزمنة النصوص الأخرى المجلوبة من تاريخها بشروطها التي أنتجتها وبهويتها ونمط خطابها. يترتب على الاستعادة المتكررة لمقاطع وأبيات سابقة إحلال الشعر محل الخبرة المتعينة في شأن واقعي، لكن الشعر نفسه يصبح في "بهلول سقط المتاع" خبرة قديمة تخضع لتحديث "تقليدي" بحشد الحيل، التي تدرب الشاعر على أدائها من قبل، في سياق تواطئي يراهن على المشترك مع قارئ مخصوص. استولت على النص، كمثال، حيلة الإشارات التوثيقية، لشعر الشاعر وحده: "علقنا على ابيضاض السالفين/ ودسست بين أوراقها: دهاليزي والصيف/ بكائيتي على رحيلها بعد رفع اللجوء/ بدايتها: للفحيح الغامض في قلبي/ ونهايتها: أختفي في: لكم". راجع: دهاليزي 1990". وحيلة الاستطراد بالتهميشات والشروح، التي لا توضح المتن: "معاني المفردات: الصيف ذو الوطء: جنون أوله ثقب إبرة/ وآخره زِلتُ/ رفع اللجوء: هارب من الهاشميين في مصر/ أعتقه الهامشيون/ هبة الجائعين/ رجة الروح". يمكن أن تكون الحيلتان مراجعة شعرية لمنحى الغموض، أو موازنة لخفة الغنائية بوقار أسلوب العلم، وأفضل أن أراها تهكماً من فكرة توضيح الغموض نفسها، ومن الهوامش التي تصبح متوناً في حاجة الى الشرح. أياً تكن الحال فقد توافقتا مع دال الإحلال من جانب ومغزى التناص من جانب آخر، والكل يعبر عن وعي بالتاريخ وعن علاقة ما بين المنتخب من هذا التاريخ والمحرك الإبداعي الذي دفع النص للوجود. "سادة مرتّبون يعلكون الأخوة ويعبرون الشدائد/- لماذا يذهب المحبون؟/- لأن السلام صعب./ فلما جاءني المخاض قال لي قنديل:/ لا تمكث في الأرض". يصلح هذا المقطع للتمثيل على أبرز ملمحين في "بهلول سقط المتاع"، الأول: تشعب العلاقات الحميمة - والملتبسة - التي يستعيدها الشعر في اتجاهات متداخلة: الأسرة، الحبيبة، الأصدقاء كعلي قنديل ومحمد فراج، السلطة، متعينة في مراقبة سلوك الذات ومحاولة ضبطه في قوالب خانقة... "كان الأمن في الحسين يصطاد الحناجر بملقاط". والوطن/الشعر/ البهلول حيث وكالة الغوث والملاجئ، سمسمية الغزالي في منازل الأربعين حي في السويس، هبّة الجائعين، العبدلي أو مربع التوقيف في بلاد العرب، البحر الميت، يافا، سيناء، والمغزى يكاد يستبين ب... "فرط ماء في فرط صحراء/ فلعلك انتبهت لاقتران الحب بالقلم السياسي/ واقتران الشعر بالمخابرات". وأخيراً العلاقة بالشاعر الذي سموه السبعيني ولا يزال يحمل اسمه/ سيقول له جمع سهم: وارني عن اسمي/ اصطياد من النفري الذي سيغدو بديلي". وسيلتبس البديل بابن عربي: "شرفة الأوديون: مكان يعول عليه لأنه مؤنث/ ارجع إلى بديلي". الشعر الذي يستعيد الحياة حياة تستعاد ويعاد تشكيلها طلباً للنور/ التعويذة المختارة في نص "سجادة لصلاة اثنين": "النور على نور/ والظلمة محض نهار"، وهذا ما يقودنا إلى الملمح الآخر، الذي يتجاوز النص الأول إلى الديوان كله، أعني ملمح الاشتباك الغالب، والمبكر منذ العناوين، مع الخطاب الديني عبر الإشارات والتضمينات ومحاذاة الأسلوب. يتشكل النص الأول كما سبق من الإحلال، أو الاستبدال، وكذلك النصان التاليان في "سجادة لصلاة اثنين" نجد إحلالاً جزئياً للحلم والتوهم والأمثولة محل الواقع، الحبيبة تستبدل الخف المغربي والأساور التي من خشب الجوز بالسفر إلى المغرب والهند، والشاعر يمسح كفه في جسدها ثم يتأمل "الكشط فوق المائدة"، والأمن المستفاد من مشاهد الحب الخاطفة تبدده متابعة الجحيم الماثلة في النص إثر كارثة جماعية. أما الإحلال الأكبر فقام به الجني الذي جاء وراح "... أخذ الدفة/ والمجداف/ ومنضدة الأقداح/ ترك العاشق/ مختنقاً/ بالمصباح"، سيبقى الجني على هيئة عمود من نار، مثيراً الأسئلة التي تضرب فزع الروح والإجابات، أثناء مشاهدة الأسرى والموتى والمصابين والأعضاء المتناثرة في كل اتجاه. سيبقى حتى يتم استبداله في نص "تحيات الحجر الكريم" بإحلال الأطفال محله، الأطفال الذين حلوا محل الطيور، والطيور التي حلت محل الملائكة لرد الغزاة، مستبدلين - الأطفال - السماء بالأرض، وحجارة الوطن بحجارة الجحيم: "حجر على حجر، وكل بلادنا حجر، يطير ليرسم الأفق البعيد بهيئة الحجر". الحجر الكريم في النص آلة وغاية، الوطن حجر يرمى، والغاية الأعظم تحجير السماء، لتصبح الوطن البديل، لذلك بان التركيز على تصوير الجحيم الدنيوية، الدنيا نفسها ليست سوى "سقط المتاع"، وبرزت فكرة الحنين الى البدايات، بما تعنيه من انتظار النهاية ورفض الحاضر، وحبس العاشق في المصباح مجرداً لا يملك إلا التمني. التمني يرسم ملامح اليوتوبيا المنشودة "ليت الفتى حجر/ حتى ينام المرهقون/ وينضج التفاح في ذيل الصبايا/ يستعيد الحب لوعته/ يؤوب الهاجرون إلى الربابة بعدما هجروا/ ليت الفتى حجر". ربما يدهشنا تمني تجميد الإنسان، وبالتالي كفّه عن الفعل، على النحو الذي يذكر برؤية الأشاعرة للفاعل الأوحد في الكون. فهل تمكن مقاومة التساؤل عن هذه التحولات "الجيوسوسيولوجية" في يوتوبيا حلمي سالم؟ ما دلالة التناص المفرط مع الخطاب الديني؟ من الواضح أن سطوة هذا الخطاب، بثنائياته الصارمة، على غيره من الخطابات، هي دافع الخطاب الجمالي لاستيعابه، بغية إنتاج رؤية بديلة لشروط اليوتوبيا الخاصة، فلا إبداع في إعادة إنتاج الرؤية الأصل. الربط بين نصوص الديوان يقترح أن نقد الرؤى القديمة - سواء على المستوى الشخصي... "لاحظ المشخصون أن ماءه كثير/ وأن رمزه الغلاب: إروس"، "ما كل هذه النهود في الصفحات يا ابن زاهية؟" أو على مستوى أعم... "كل بلادنا حجر، فكيف تُهان أزمنة سحيقات لأن عصورها حجرية" - يهدف إلى قلب الثنائيات. إسقاط قيمة الدنيا ونذر متاعها - المحتقر أصلاً - للفناء يعني إهمالها أو مغادرتها بصفقة مجزية/ الاستشهاد، وأن تكون: "الحجارة مبتدأ الدنيا وآخرها، علامة التطوير في فن المحبة". من الممتع حقاً في هذا الديوان تأمل تحولات الإنسان من كلمة إلى جنيّ محبوس، ثم إلى ملك بلا إرادة ولا اختيار، وأخيراً إلى رمز يخلق الفعل ويراقبه، مع ملاحظة ارتباط هذه التحولات بجحيم الوطن، أو رداء البهلول غير السالم، الذي يلتهم الناس/ الحجارة، وافتراض أن تغييراً ما لا بد من أن يقع نتيجة تبادل الكائنات بين السماء والأرض. فتحجير السماء وتوريط كائناتها في مأساة الأرض يجعلان الجميع في الجحيم سواء، وحينذاك، من يدري، ربما يختلف الوضع. يبدو الشعر في "تحيات الحجر الكريم" صيغة معرفة تقف في مواجهة صيغ اجتماعية أخرى تراقبها وتحاصرها، وتقترح رؤية الديوان، من خلال الاشتباك مع الصيغة المعرفية المقدسة - الممتنعة على الرقابة والحساب - إمكانية للخروج من هذا الحصار بقلب الثنائيات الكبرى ونسبة الفعل للإله، ربما نختلف مع حلمي سالم حول المزالق الفكرية في هذه الرؤية، لكنها طرحت بحرفية جذابة وعلى بساط الشعر الذي يزداد حسناً كلما زيد قراءة، وهذا ما يستحق التحية، لأنه الذي يبقى.