دريسدن… مركز السياحة والثقافة الالمانية وعاصمة سكسونيا، تخطت مأزقها الذي ترك آثاراً بالغة على حركة مرافقها السياحية المختلفة، حينما غرقت أساسات هذه المدينة التاريخية في مياه الفيضانات العام الماضي. والآن استعادت عافيتها واكتست بثياب الصيف الجميل، وبدأت من جديد تلملم نفسها وسط اقبال مكثف لملايين الزوار القادمين اليها من كل انحاء العالم. ويفضّل معظم المواطنين الالمان قضاء اجازاته السنوية في الشرق الالماني، خصوصاً هذه المدينة التي تجمع بين الطبيعة والتاريخ والتي تكمن فرادتها في شكل التزاوج الرائع بين القديم والحديث، بين ثقافة الريف وثقافة المدينة. أما بيوتها فما زالت تحتفظ بنكهة الطابع الفلاحي، وهي شيّدت من أخشاب الغابات التي تحيط بها من كل جانب. وتعتمد فنادق دريسدن على عناصر البساطة في المظهر والحيوية والخدمة الفندقية الى حد المبالغة. والأهم بالنسبة الى قطاع السياحة في دريسدن هو توفير اعلى مستويات العناية بالزوار وغاية القائمين على الشأن السياحي ترك انطباع مريح في نفس كل من يأتي اليها من الزوار، وبما يكفي ليعود اليها مرة أخرى وهذه الغاية بالذات هي التي تدفع طواقم السياحة والفنادق الى بذل مزيد من الجهد في كل تفاصيل خدمات الضيافة لتلبية حاجات السياح الاجانب. ومدينة دريسدن او كما يطلق عليها "فلورنسا الالب" تعبيراً عن جمالها الذين ينافس جمال المدينة الايطالية العريقة "فلورنسا" ظهرت في القرن الثامن عشر كمركز ثقافي تجتمع فيه شروط الاكتمال الحضاري المتقدم. وجمع يوهان كوتفريدهيرور تراثها الفني بمساعدة غاليري "يوفينري" وعنايتها وصنّفه في شكل مناسب ليسهل على الزائر المتابع الحصول على فكرة عامة عن حضارة هذه المدينة التاريخية. ومركز المدينة التاريخي هو "الترستاد" الذي يبلغ قطره نحو كيلومتر ونصف كيلومتر تقريباً. وفيه غالب الآثار التاريخية المتلاصقة ومن هذا المركز تتفرع الشوارع التي تضم الكثير من المتاحف. وعبر جسر "اوفوستبيرك" الذي يقع على الالب ننتقل من القسم القديم التاريخي للمدينة الى القسم الجديد منها والذي يدعى "نيوستات" وفيه حي "اوسير نيوستات" الذي تقطعه شبكة المواصلات العادية اضافة الى "تراموايات" وفيه يمكن الصعود الى سفن السياحة التي تسبح في تشعبات الالب. ومبنى بلدية المدينة القديمة يقع في الجانب الجنوبي الشرقي من ساحة "تيتربلازي" وهو نسخة مطابقة لمبنى "التافاخ" الشهير في برلين، وكلاهما اقترحهما فردريك شنيغر عام 1830 واليوم يضم المبنى مركز بيع جميع التذاكر لزيارة مسارح المدينة. قصر الحاكم كوستيل الذي بني عام 1762 لم يبق منه سوى جناحين بعدما تعرض الى القصف المركّز اثناء الحرب العالمية الثانية، قبل ان يعاد بناؤه اخيراً بارتفاع ستة طبقات، ووفق التصميم الاصلي الذي كان عليه قبل الحرب. أما القصر الياباني الذي بني بين 1727 و1737 على أساس انه قصر هولندي الشكل فتحول تدريجاً بمساعدة المنتجات الفنية الصينية الى تحفة عمرانية فنية رائعة اطلق عليها اسم "القصر الياباني" وفيه تعرض انواع البورسلين كافة. وافتتح فيه ايضاً جناح للملك اوغستسيلين لعرض منتجات الورشة الملكية، وبعد وفاة الملك تحول هذا الجناح الى عرض منتجات الشرق الادنى الفنية واليوم يسمى الجناح بمتحف "فوكركوندا" وامام المتحف يقف تمثال فردريك اوغست الأول. النهر المنعش يعتبر نهر الالب الثروة الطبيعية الأولى التي أنعشت مدينة دريسدن ووفرت لها شروط البقاء والازدهار واعطت دفعة للحركة السياحية الوافدة اليها، فهذا النهر الذي يخترق المدينة ويتلوى في كبدها، اوجد امكانات سياحية كبيرة يُحسن سكان المدينة والعاملون في قطاع السياحة والسفر استغلالها. يبلغ عرض النهر في داخل مدينة دريسدن نحو 100 متر وعمقه اكثر من مترين وعليه ثمانية جسور تفصل بينها مسافات غير قريبة. اما القصور التي تقع على هذا النهر فهي ثلاثة قصور تفترش الارض الخضراء. ومعظم البيوت والمرافق العامة في دريسدن دمر في مراحل تاريخية مختلفة ولكن السلطات الألمانية أعادت بناءه من جديد، ففي عام 1760 دمرت هذه المرافق بحرب السبع سنوات، وفي الحرب العالمية الثانية تعرضت المدينة عام 1945 إلى هجمات بريطانية واميركية اوقعت عشرت الوف القتلى ودمرت احياء سكنية بأكملها قبل ان يعاد بناؤها عام 1953. وفي دريسدن اجمل المتاحف ومنها متحف المدينة الذي يحتفظ بأثر مهم يعمه الكثيرون من السياح وهو صورة "مادونا السادسة عشرة" أبرز الاعمال الفنية في مجموعة "التي مستير" أي "المصلحون الكبار". وخلال الحرب العالمية الثانية وزعت الاعمال الفنية على شكل مجاميع في اكثر من 45 موقعاً ومكاناً مختلفاً. وحينما بدأ الجيش السوفياتي يقترب من المدينة ابان الحرب العالمية الثانية قامت السلطات باخفاء بعض هذه الأعمال في أنفاق خاصة، ولكن ذلك لم يمنع من تدمير عدد من هذه الاعمال، في حين شهدت المتاحف المقامة فوق الارض دماراً كاملاً واحترق نحو 154 لوحة في حين فقدت 700 لوحة اخرى واستولى الجيش السوفياتي على 1240 عملاً فنياً ووضعها في متاحف موسكو ولينينغراد. وعام 1955 أعادت الحكومة السوفياتية الى المانيا الديموقراطية آنذاك هذه الاعمال وفيها اعمال فنية ووثائقية عن المدينة ذاتها. وهناك ايضاً متحف "كراسوفسكي" الشهير وهو يعرض مقتنيات "الدوقة كوسيل وبروهيل" وهو تمثيل لروايتهما التاريخية التي كتبها الكاتب البولندي يوسف الناتشي كراسوفسكي، وقد ظهرت هذه الرواية عام 1874 - 1875 في احدى فيلات دريسدن والآن انتقلت الى متحف صغير في هذه المدينة. أما قصر الاوبرا الذي يستقبل على امتداد العام آلاف السياح فيقع في ساحة "تياتر بلاز" وهو بني عام 1841. وبالقرب منه يستطيع قصر الثقافة استيعاب نحو 2800 شخص وفيه تقدم "اوركستر فيلهارمونيا دريسدن" مقطوعات موسيقية في كل عام اضافة الى مقطوعات تقدمها فرق "الجاز" المختلفة. وفي دريسدن ظهرت اختراعات وافكار لها ركنها التاريخي في متاحف المدينة، ففي عام 1895 أعلنت الآنسة كرستين هارت من مدينة دريسدن اختراعها أول صدرية نسائية داخلية في العالم. وفي مقبرة منطقة جوهانستيد ينام ماكس فون ستيفانيتز الذي نجح عام 1899 في توليد جد السلالة التي منها تنحدر كل كلاب الصيد والحراسة الالمانية وعام 1936 انتج في دريسدن اول منظار عاكس في العالم، وهكذا الكثير من الاختراعات الذي ارتبط باسم اهل المدينة التي جعلها الحاكم الديني فريدريك اوكست عام 1694 العاصمة الدينية لأوروبا. وعندما نشبت الحرب العالمية الثانية كان نصيب دريسدن الكثير من الدمار فقد اختفت المدينة عن وجه الارض في ليلة واحدة في 13 شباط فبراير 1945 حيث قصفت بشكل منظم وقتل فيها نحو 30 الفاً من المواطنين. وكتب الكاتب الاميركي كورت فونيكوت الذي وقع أسيراً في ايدي الالمان روايته الشهيرة "المذبحة رقم 5" التي وصف فيها كارثة دريسدن بدقة كبيرة. اليوم دريسدن تستعيد موقعها الثقافي والسياحي في اوروبا، كواحدة من اروع مناطق الجمال والمتعة المقترنة بلطافة اهلها المنفتحين على الاعراق الاخرى ووداعتهم وليست مبالغة اذا قلنا ان نصيب دريسدن من السياح العرب ليس قليلاً فهي فضلاً عما تحتضنه من اروقة جمالية فريدة من نوعها فان اهلها عموماً يكنون احتراماً فائقاً للزوار العرب، بدليل انه اينما اتجه المرء في شوارع دريسدن وأزقتها لا بد ان يسمع أحاديث عربية تنطلق من هنا وهناك.