قرأت ما ادلى به الزميل ابراهيم الداود في "الحياة"، فهالني ما سرد من جل ما جاء منه بعيد من الحقيقة بعد الثرى عن الثريا. ... كنت مديراً للاستخبارات العسكرية بين 19/4/1964 و22/2/1965، وكان ابراهيم الداود ضابطاً في مديريتي، وأحد مرؤوسي، الى ان حدثت حركة عارف عبدالرزاق الاولى التي انتهت بالفشل. وأنا حين ارد عما كتب الداود ارد كصاحب دار ادرى بما في داره. والداود ليس كل الذي ادعاه وذكره لصحيفتكم. الآن اسرد لكم بصدق. وموجز سيرة هذا الرجل قبل ثورة 14 تموز يوليو الجبارة انه كان ملازماً اول في كتيبة المدفعية في جلولاء، حيث كان المرحوم عبدالسلام محمد عارف يخطط لثورة 14 تموز، وحصلت الثورة، وكان الداود مستحقاً للترفيع الى رتبة رئيس نقيب. فلم يوافق عبدالسلام عارف على ترفيعه، ولما سئل عن السبب قال: كان يشي الى الاستخبارات بتحركاتنا. ثم كان المد الشيوعي. فكان اكثر شيوعية من روادها وقادتها. وحدثت ثورة رمضان التي اشعل فتيلها البعث، وأنجحها القوميون. ولولا اللواء الثامن الذي تحرك من الحبانية بآمري افواجه الثلاثة: العقيد عبدالجبار علي الحسين، والمقدم أمين شاهين، والمقدم الركن هادي خماس، في قيادة معركة وزارة الدفاع وادارة المعركة من المقدم الركن صبحي عبدالحميد والمقدم الركن عرفان عبدالقادر، من دار الاذاعة، لما نجحت الثورة مطلقاً. اما دور الداود، فلم يكن كما ذكر في هذه الثورة، بل كان المومى اليه في البصرة، وكلفه العقيد الركن عبدالقادر فايق ان يأخذ مكبر صوت بسيارة عسكرية، ويبلغ اهل البصرة منع التجوال. لقد ذكرت ان الداود احد منتسبي مديريتي. وقبل حركة عارف الاولى نقلته الى منصب ضابط استخبارات المنطقة الشمالية، وكان مقره في كركوك. ولم يكن في بغداد. وكل ما ذكره عن هذه الحركة، وموقفه البطولي في افشالها، وكيف اتصل بعبدالسلام عارف وأخبره بالحركة، مدعياً انه كان قائداً للحرس الجمهوري، هذا كله تجنٍ على الحقيقة والتاريخ. ومن الغرائب التي ذكرها الداود قوله: "ارسلت له برقية يعني عبدالسلام عارف وقلت له لا تعد في طائرة خاصة بل في طائرة ركاب. واذا طلب منك عبدالناصر الذهاب الى القاهرة الرجاء ألا تقبل، وأبلغته ما جرى، وانني ارغمت عارف عبدالرزاق وصبحي عبدالحميد ورشيد محسن وغيرهم على المغادرة". والحقيقة هي: أولاً: ان صبحي عبدالحميد لم يترك العراق في صحبة عارف عبدالرزاق. ثانياً: ان الذي رواه محض خيال، وخير من كتب في الموضوع هو الاستاذ أمين هويدي، سفير الجمهورية العربية المتحدة في العراق، وكان على صلة بالقوميين، ومع المرحوم عبدالسلام محمد عارف الذي كثيراً ما ناداه بأبو أحمد كصديق له. ويذكر الاستاذ امين هويدي في الصفحة 261 في كتابه الموسوم "كنت سفيراً في العراق 1963-1965" ما يأتي: "وفي صباح 15/9/1965 عقد اجتماع في منزل عارف عبدالرزاق وبعدها غادره ومعه عائلته الى مطار بغداد الدولي الصحيح مطار معسكر الرشيد ثم الى مطار القاهرة على متن احدى الطائرات الحربية. ولم تخطر سفارة الجمهورية العربية باتجاه الطائرة الى القاهرة، كما لم تخطر القاهرة بأن طائرة حربية في طريقها اليها. كل ذلك كان يتم والرئىس عارف هناك في الدار البيضاء، وقد علم بتفصيل ما حدث من الرئىس جمال عبدالناصر، اذ كنت قد ارسلت بالتفصيلات قبل ان يتمكن احد في بغداد من اخطار الرئىس عارف بما حدث". الى ان يقول: "وقطع الرئىس عارف زيارته الى الدار البيضاء وعاد الى القاهرة ليعمل ترتيب سفره الى بغداد، وقد أُعدت خطة لعودته في سرية كاملة، اذ ان الموقف لم يكن واضحاً في بغداد بل كانت هناك طائرات في انتظاره لاسقاطه بطائرته عند الوصول". ثم يستطرد الاستاذ أمين هويدي قائلاً: "واستقل الرجل طائرة من احدى المطارات الحربية بالقاهرة بتنسيق كامل معي في بغداد وحدد وقت الوصول". هذه هي الحقيقة. ولم يكن للداود اي تأثير او علم بكل الذي جرى، بل كان مجرد حديث او ما له خياله به، ليضيف بطولة الى بطولاته التي يدعيها. والداود يخلط الاوراق ويروي ما سمع او ما قرأ، ويدعيه لنفسه. وما حادثة السفير الايراني ببعيدة من هذا الخلط. والحادثة حصلت عندما كان الاستاذ صبحي عبدالحميد وزيراً للخارجية، وهو احد شهودها. وان اراد احد تفصيلاً لذلك ليقرأ ما كتبه الاستاذ احمد فوزي في الموضوع في كتابه: "عبدالكريم قاسم وساعاته الاخيرة"، المطبوع في بغداد. اما ادعاء الداود دوراً في تنصيب اللواء عبدالرحمن محمد عارف رئيساً للجمهورية، فهو من وحي خياله. فالضباط، على رأسهم العقيد سعيد صليبي الذي كان آمراً لقوات موقع بغداد، ادوا دوراً رئيساً وفاعلاً في انتخاب عبدالرحمن محمد عارف رئيساً للجمهورية، وهو المرشح الاقوى. كيف استقرت رئاسة الجمهورية لعبدالرحمن محمد عارف؟ حضر المشير عبدالحكيم عامر، قبل تشييع جثمان عبدالسلام محمد عارف بيوم واحد. وجرى اجتماع في دار اللواء ناجي طالب حضره كل من طاهر يحيى وصبحي عبدالحميد واللواء ناجي طالب. وكان الاتفاق المبدئي تشكيل مجلس رئاسة. الا ان هذا لم يكتب له النجاح لأن المنافسة على منصب الرئاسة كان محصوراً بين العقيلي وبين عبدالرحمن البزاز والسلطة الحقيقية بيد الجيش، وله القدح المعلى في تعيين، وليس انتخاب رئىس الجمهورية. وعقد اجتماع ثان في دار اللواء ناجي طالب حضره، اضافة الى من سبق ذكره، العقيد سعيد صليبي والعقيد الركن ابراهيم فيصل الانصاري. واتفقوا على تشكيل مجلس رئاسة مؤلف من عبدالرحمن البزاز وناجي طالب وعبدالعزيز العقيلي وطاهر يحيى وأحمد حسن البكر، وهذا اقترح اضافته سعيد صليبي. وفي الوقت الذي اتفق على تشكيل مجلس رئاسة بهذه الكيفية كانت هناك مشاورات بين عبدالحكيم عامر وعبدالحميد السراج، واتفقا على استدعاء عامر عارف عبدالرزاق من القاهرة لتنصيبه رئيساً للجمهورية. الا ان هذا الاقتراح لم يكتب له النجاح، اذ ارسل الاستاذ امين الهويدي، سفير الجمهورية العربية المتحدة في العراق، برقية الى الرئىس جمال عبدالناصر مقترحاً عدم ارسال عارف عبدالرزاق الى بغداد. واستجاب الرئىس عبدالناصر هذا الاقتراح. وكان رأي العربية المتحدة ان يكون الرئيس الجديد مؤمناً بالخط القومي الذي تنهجه العربية المتحدة، وتكون سياسته منسجمة ومنسقة تعتمد على صداقة قوية معها. واتفق، بموجب هذا، على مجيء عبدالرحمن عارف رئيساً للجمهورية، على اساس مواصلته خط عبدالسلام عارف. فاقتنع ضباط الجيش بتعيين عبدالرحمن محمد عارف رئيساً للجمهورية على رغم ان التصويت الذي جرى على انتخاب رئىس للجمهورية، على الطريقة الديموقراطية، فاز فيه عبدالرحمن البزاز الذي تنازل عن فوزه هذا الى عبدالرحمن عارف. وهكذا حطت حمامة الرئاسة على كتف عبدالرحمن محمد عارف. ولنعد الى الدور الرئىس الذي لعبه الداود وزميله عبدالرزاق النايف في اطاحة عبدالرحمن عارف، والمجيء بحزب البعث الى الحكم. كان حكم عبدالرحمن محمد عارف هزيلاً يسير بخطى حثيثة للزوال، لأن الرجل، وللحقيقة، كان طيب القلب، صافي النية، يصدق كل ما يقال له، كذباً او حقيقة. واستغل الداود والنايف هذه الصفات، وتقربا زلفى ونفاقاً. وكانا للحق، القوة القادرة على ازاحة النظام. ففاتحا الجهات القومية للتعاون معهما. وكان المعروف عن الداود والنايف انهما يتجولان بالساحة السياسية العراقية ويفتشن عمن يستعملهما. فتعانقت العقيدتان والعمالتان: عقيدة وعمالة الداود والنايف، وارتباطات قادة حزب البعث. وأقنع الرئىس احمد حسن البكر كلاً من داود والنايف بقوله: "يابا! مْنو احسن منكم! النايف رئىساً للوزراء والداود وزيراً للدفاع ويكون احدكما رئيساً للجمهورية!". فطربا لهذا المنطق المعسول. فاتفقا مع الحزب، وتسلما السلطة من دون اي عناء، كشربة ماء، بعملية تغيير الولاء، بعد ان اقسما للرئىس عبدالرحمن عارف بالمصحف، وبطلاق زوجتيهما، انهما مخلصان له بعد ان انحنيا لتقبيل .... وعلى رغم هذا القسم جاءا بالحزب الى السلطة. وهنا لا بد لي من ان اسأل: كيف يصدق القارئ اللبيب ما ذكره الداود من بطولات، وهو الذي طرد بعد اقل من اسبوعين من استلامه، وزميله النايف والبعث، السلطة ليستقر هو لاجئاً في السعودية، وزميله النايف قتيلاً في لندن؟ وأخيراً وليس آخراً اقول للداود ان الخراب والدمار اللذين حلا بالعراق، فاستبيحت ارضه، ونهبت ممتلكاته، لم يكونا الا نتيجة لما ارتكبه الداود من غدر، وقدم العراق على طبق من ذهب الى حزب البعث الذي دمر البلاد وأهلك العباد. وبعد هذا ولى منهزماً، تاركاً الوطن وأهل الوطن. والعراق، وما عرف عنه من شجاعة ونضال، لا بد له من ان ينتصر، ويطرد المحتلين، عاجلاً ام آجلاً. وموعدنا الصبح، أليس الصبح بقريب؟ العقيد الركن المتقاعد هادي خماس مدير الاستخبارات العسكرية سابقاً