غريب عجيب أمر إدارة الرئيس بوش وموقفها من مهمات الوكالة الدولية للطاقة الذرية في هذه الأيام. فالمتابع يلمس كيف أعاقت مهمة هذه الوكالة، التابعة للأمم المتحدة، في العراق في ما يتعلق بخطر الإشعاع النووي، فيما تمارس ضغوطاً عليها كي تتخذ موقفاً أكثر تشدداً تجاه الحكومة الإيرانية. والدعوة التي وجهتها الوكالة الدولية إلى إيران قبل أيام، مطالبة إياها القبول بعمليات تفتيش لمنشآتها النووية من دون اي قيود، واعتبرها المراقبون "تأنيباً"، لم تحظ بقبول الولاياتالمتحدة التي تطالب ب"ادانة" ايران. هذا على رغم التناقض الجلي بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأميركية، اذ وصف فيليب ريكر مساعد الناطق باسم الوزارة موقف الوكالة ب"الايجابي جداً"، واعتبر انه "يعكس القلق الذي أبديناه في شأن البرنامج الايراني"، بينما قال آري فلايشر الناطق باسم البيت الابيض ان "على ايران الالتزام، وإلاّ فإن العالم سيستنتج انها ربما تطور اسلحة نووية" تحت ستار برنامجها لانتاج الطاقة. موقف الإدارة الأميركية هذا يبدو في تناقض كامل مع موقفها من مهمة الوكالة الدولية للطاقة الذرية في العراق، وتحديداً ازاء سرقة مواد نووية وحدوث تسرب إشعاعي، إثر اعمال السلب والنهب التي طالت المواقع النووية العراقية في اواخر نيسان ابريل الماضي. وادى نهب مئات الحاويات والبراميل والصناديق المخصصة لحفظ مواد نووية وملوثات، وسكب محتوياتها عشوائياً، الى تعرض المواطنين في المناطق المحيطة الى خطر التلوث والى الإصابة بأعراض مرضية حادة. لم تتخذ القوات المحتلة اجراءات عاجلة لدرء التلوث او للحد من خطره، بل وماطلت إدارة بوش طيلة 6 أسابيع قبل ان تستجيب لطلب الوكالة السماح لها بدخول العراق فوراً للتوثق من المواد التي فُقدت من المواقع النووية المسجلة لديها، وتقدير حجم التلوث الإشعاعي، والحد من أخطاره على المواطنين. وضُربت عرض الحائط التحذيرات التي أطلقها العديد من الخبراء من إحتمال وقوع المواد النووية بأيدي إرهابيين وتعرض بغداد الى تلوث إشعاعي خطير، في اعقاب الإنتشار السريع لكميات كبيرة من النفايات المشعة من مواقع خزنها داخل مجمع التويثة النووي وفي محيطها، والى كثير من البيوت والى الأحياء السكنية المجاورة والقريبة. وينطبق الأمر ذاته على مخزن النفايات النووية الذي كان يحتوي كميات كبيرة من المركّبات والمساحيق والمواد المشعة، وتسرب بعضها بالفعل. وأكدت تقارير ميدانية بأن خطراً حقيقياً ومرعباً انطلق من هناك، ولن توقفه أي حدود - بحسب تحذير خبراء - ما لم يتم تداركه. وظهرت أولى نتائج ما حدث في المناطق المجاورة لمقر هيئة الطاقة الذرية في التويثة، حيث تعرض المواطنون لجرعات متفاوتة من الإشعاع، بسبب استخدامهم للحاويات الملوثة، أو نتيجة لسكب محتوياتها المشعة في المنطقة. وسجلت أجهزة القياس معدلات عالية من الإشعاع في منازلهم ولدى مواشيهم وطيورهم. ونبّه الخبراء الى ان عمليات التطهير، التي تُنظم بجهود متطوعين من خبراء الهيئة، محدودة، وان محاولة الأهالي التخلص من التلوث بطرق غير صحيحة أدت الى نشره في رقعة أوسع. كما حذروا من ان موادآً كيمائية قاتلة وغازات سامة وبكتيريا وجراثيم تستخدم لأغراض تجريبية فُقدت، واختفت بعض حاويات النظائر المشعة، ولا يزال البعض الآخر معرّضاً للسرقة. وحذر خبير نووي من إحتمال أن تتعدى الأضرار التي طاولت البيئة حدود العراق، مؤكداً بان البرميل الواحد من المواد المفقودة كان يحتوي 300-400 كيلوغرام من اليورانيوم المشع، من الصنف المسمى "الكعكة الصفراء"، وسُكبت إما على الأرض، او في نهر قريب، او في بالوعات منزلية. واُستخدمت البراميل الفارغة، الملوثة بالاشعاع، لحفظ الماء وجمع الحليب، ونقلت بواسطتها كميات كبيرة من الحليب الى معامل صنع الألبان. وأظهرت القياسات الإشعاعية التي اجراها الخبير النووي المهندس الدكتور حامد الباهلي لعشرات البيوت المحيطة بمقر هيئة الطاقة الذرية العراقية، ان التسرب الاشعاعي وصل الى أماكن بعيدة. ووجد التلوث الإشعاعي حتى في الأفرشة والملابس، وكان بدرجة خطيرة جداً إذ بلغ 500- 600 مرة أكثر من الجرعة المسموح بها. وأفادت التقارير أنه كان يوجد في التويثة قبل الحرب نحو طنين من اليورانيوم المنخفض التخصيب، وأكثر من 500 طن من اليورانيوم الطبيعي، وكميات أقل من مادة السيزيوم عالية الاشعاع، والكوبالت، والسترونيوم العالي الإشعاع، والكاسيوم، المخزنة في التويثة. والكاسيوم 137 هو مسحوق عالي الاشعاع يتميز بخطورة خاصة اذا اُستخدم في انتاج ما يُعرف ب"القنبلة القذرة". وما حدث في التويثة تكرر في الكوت وفي أماكن أخرى، حيث تبين ان سبعة مواقع نووية عراقية تعرضت للنهب والسلب. وفي 11 نيسان ابريل اعدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية لائحة بالمواقع النووية، وطلبت حماية مجمع التويثة، معتبرة انه أحد موقعين يحتاجان الى حماية عاجلة من اللصوص. وفي 3 آيار مايو، تفقد فريق تابع للبنتاغون المجمع، وعثر على مواد مشعة مبعثرة في أرجائه. وفي اليوم التالي، نُقل عن ريك توركوت، أحد اعضاء الفريق، بأن المادة الاشعاعية المكتشفة تمثل خطراً على الصحة أكثر من أى شيء آخر. ولفت الخبراء العسكريون الاميركيون، في أعقاب معاينة الأضرار التي لحقت بالمنشأة، إلى إختفاء 20 في المئة من المواد المشعة الخطرة التي كانت مخزنة هناك. وأنحى الخبراء العراقيون باللائمة على القوات الأميركية لفشلها في الاسراع بحراسة هذه المنشأة الحيوية ومنع تعرضها للسلب. وقال الباحث محمد الحمداني: "كانوا يعرفون بوجود مواد مشعة في المنشأة، وكان واجبهم حمايتها". مع كل هذا، وبعد أكثر من شهر ونصف، وعقب تكرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية لطلبها مرات عدة بضرورة السماح لها بدخول العراق، واعلان مديرها التنفيذي د. محمد البرادعي ان "ثمة وضعاً اشعاعياً وانسانياً ملحاً يتطور هناك استناداً لتقارير شهود عيان"، استجابت الإدارة الأميركية. لكنها اشترطت ان تقتصر مهمة الوكالة في إحصاء حاويات المواد المشعة المفقودة، وإعادة تعبئة المواد المشعة بشكل آمن. ولم تتضمن مهمة الفريق قياس التلوث البيئي الناجم عن الحادث أو مراجعة التقارير الخاصة باحتمال إصابة السكان القريبين من الموقع بأمراض بسبب التعرض للإشعاع النووي. ومُنع فريق الوكالة من دخول المجمع الرئيسي لمركز أبحاث التويثة وستة مواقع نووية أخرى يعتقد أنها نهبت في فترة الفوضى التي عمت بعد انتهاء الحرب! وبالفعل، باشر فريق الوكالة مهمته في السادس من حزيران يونيو، وانجزها في 16 منه، لكن تحركه اُحيط بتكتم شديد. وها قد مر اكثر من إسبوع على إنتهاء مهمة الفريق ولم تعلن الوكالة الدولية عن أي نتائج. ويخشى المراقبون الاّ يكون في وسع الوكالة حالياً إعلان نتائج تدين تقصير القوات الأميركية المحتلة هناك. إرتباطاً بهذا لا يأتي صدفةً تصعيد الموقف الأميركي من إيران، وإشغال الوكالة الدولية بالموضوع، وتأزيم العلاقة بينها وبين إيران، في هذه الأيام بالذات! * طبيب وباحث عراقي مقيم في السويد.