المفتاح الأهم في تطبيق "خريطة الطريق" إلى قيام دولة فلسطين إلى جانب دولة إسرائيل هو الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش. لكن هذا لا يلغي المفاتيح الأخرى الرئيسية المتمثلة في القاعدتين الشعبيتين، الفلسطينية والإسرائيلية، وفي قيادتيهما، كما في البيئة العربية. فمن الخطأ وضع العبء بكامله على كتفي الرئاسة الأميركية، إذ أن هذا ليس مصيرها ولا مصير الشعب الأميركي. إنه مصير منطقة الشرق الأوسط الذي يتهافت على تعريفه وتحديده تيار التطرف في وقت حان لتيار الاعتدال خوض معركة تقرير المصير. ما حدث في الزيارة الأولى لبوش إلى المنطقة يشكّل فرصة قيّمة تزداد أهميتها مع الفرصة المتاحة في الذهن والفكر العربي والإسرائيلي. فهناك نقلة في الساحتين العربية والإسرائيلية، الشعبية والحكومية، تتزامن مع حسابات أميركية تتضمن نقلة فريدة. لكن الفرصة المتاحة ترافقها هشاشة وتحديات صعبة. وأولى القفزات على الصعوبات تكمن في فهم حسابات كل من المعنيين. حرب العراق سجلت حدثاً مهماً في المنطقة كان لا بد من التحسب لافرازاته من جهة، والبناء عليه من جهة أخرى. هذا الحدث مزّق الكثير من الأوهام، على نسق استحالة إحداث تغييرات في المنطقة، لا سيما في وجه التسلط والبطش، وفي ادخال اصلاحات ضرورية. مزّق أيضاً تصورات لأصحاب نظريات التطرف والغطرسة الذين اعتقدوا أن العراق ما بعد الانتصار العسكري سهل المنال. جاء حدث العراق مدخلاً لتغيير وضع راهن في ذهن القيادات والشعوب العربية. إنما بوابة العراق إلى إعادة النظر واستدراك الاستلقاء في الوضع الحالي، لم تكن وحدها المحرك الرئيسي إلى النقلة النوعية في الذهن والفكر العربي. إنه الارهاب الذي ضرب في العصب العربي. فهو الذي حقَن الاستعداد الجدي لاتخاذ الاجراءات، وللكف عن العادة السرية في تبرير الإرهاب ضد الآخرين بشرح دوافعه وخلفياته. ما صدر عن قمة شرم الشيخ من مواقف عربية إزاء الإرهاب فائق الأهمية، ليس فقط لأنه جاء في بيان علني، وإنما لأنه يعني قطع التمويل والتبرير والصلة السياسية بكل مَن بقي في خانة التبرير السري للإرهاب. فلسطينياً، ما حدث في قمة شرم الشيخ هو وضع الثقل العربي مع خيار رئيس الوزراء الفلسطيني السيد محمود عباس، وهذا لا يعني الدعم السياسي والمعنوي فحسب، وإنما يعني قطع التمويل عن المنظمات الفلسطينية المعارضة لخيار حكومة عباس. هذا ما يساهم جذرياً في قرارات المنظمات الفلسطينية بالموافقة على وقف النار والاصطفاف وراء قرار حكومة عباس وخيارها. فالناحية السياسية تبقى دائماً فائقة الأهمية، إنما ناحية التمويل تبقى الأساسية، إذ لا يمكن لهذه المنظمات "الصمود" في "مقاومة" لا توافق عليها السلطة الفلسطينية التي تمثل الفلسطينيين، ولا تريد الآن ان يلغيها خيار المقاومة أو الانتفاضة. السلطة بقيادة عباس اليوم، تريد الرهان على ما توفره "خريطة الطريق" بواقعية، انما ليس من دون مغامرة. لذلك لجأت الى خيار التفاهم مع منظمات مثل حركة "حماس" على اساس واقعي وعملي، قدمت عبره الشراكة العقلانية لإعطاء فرصة قيام دولة فلسطين بحلول عام 2005. انها مجرد ثلاث سنوات، سيتضح ما إذا كانت فعلاً المصير في وقت أقصر. فإذا أفشل رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون "خريطة الطريق"، تحقق حكومة عباس أمرين مهمين هما أولاً وحدة القرار الفلسطيني وتوحيد الصفوف في دعم الخيار، أكان في مفاوضات سلمية أو عصيان مدني أو مقاومة بالحجارة والسلاح. وثانياً، بناء شراكة مع الولاياتالمتحدة، فيما عصيان شارون لواشنطن يُطلق معادلة جديدة في العلاقة الثلاثية. هذا لا يعني ان الاستراتيجية الفلسطينية ستؤدي الى انهيار العلاقة العضوية الاستراتيجية بين الولاياتالمتحدة واسرائيل، ولا يعني ان حقول الزهور ستلاقي إقدام محمود عباس على الحسم بين المفاوضات والمقاومة. ما يعنيه ان اصطفاف الولاياتالمتحدة وحكومة عباس والقيادات العربية المهمة مثل القيادة السعودية والمصرية والأردنية والخليجية، سوياً مع "الرباعية" التي تضم الى جانب الولاياتالمتحدة الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا، وراء "خريطة الطريق" حدث بارز. فالخريطة وثيقة فريدة في المسيرة العربية - الاسرائيلية، اذ تحدد البداية والخطوات الى النهاية في برامج زمنية واجراءات متوازية، تراقبها الولاياتالمتحدة و"الرباعية" الدولية بإشراف ومراقبة لم يقدمهما أي من الطروحات السابقة للسلام. ما يعنيه ان أمام الشعب الفلسطيني فسحة تنفس من ضيق خناق الحصار والعقاب الوحشي الذي قصم ظهره. أمامه فرصة لتحقيق قيام دولة فلسطين بشراكة دولية وتعهد اميركي على مستوى الرئاسة يعد سابقة. أمامه القرار الصعب: فإما أن تقرر القاعدة الشعبية ان خطة الطريق تستحق الرهان عليها لا سيما انها تنطوي على قيام دولة فلسطين بعد 3 سنوات، واما ان تقرر ان الانتفاضة والعمليات الانتحارية أدت الى انهاك اسرائيل اقتصادياً وأمنياً واسفرت عن ملامح تنازل من شارون، وبالتالي الاستمرار فيها هو الوسيلة المجدية. فإذا كان الأخير هو القرار، على القاعدة الشعبية الفلسطينية ان تستعد لمرحلة قاتمة من الصعوبات والحرب الأهلية. على المنظمات الفلسطينية المصرة على المقاومة المسلحة عبر العمليات الانتحارية، ان تجد وسائل جديدة ليس فقط لتمويلها وانما كذلك لمعالجة بؤس الفلسطينيين وفقرهم لفترة طويلة. القاعدة الاسرائيلية الشعبية أيضاً أمامها خيارات مصيرية، تبدأ بالالتزام الفعلي بتنفيذ "خريطة الطريق" وتنتهي بمعركة التنفيذ وبمعركة التعرف الى من هو شارون اليوم وماذا يريد. العنوان الأساسي للمعركة الاسرائيلية الاسرائيلية هو القبول الجذري بقيام دولة فلسطين مكان الاحتلال. عندئذ تبدأ الحروب الاسرائيلية الاسرائيلية على المستوطنات. وكما أن الحروب الفلسطينية الفلسطينية في شأن القرار قد تؤدي الى عمليات تدخل في خانة الارهاب، سيسفر عن الحروب الاسرائيلية الاسرائيلية ارهاب اسرائيلي غير حكومي. فالتطرف في الساحتين لن يقبل بسهولة قرار الغائه. وشارون في قمة العقبة تحدث بلغة ايجابية لم يسبق أن نطق بها، الأمر الذي سيحصد له عداء من المستوطنين. مقابل التعهد العربي الذي حصل عليه الرئيس الأميركي في قمة شرم الشيخ بقطع نفس تيارات التطرف الفلسطيني عملياً، باجراءات أهمها قطع التمويل المباشر وغير المباشر، على الإدارة الأميركية قطع نفس التطرف الاسرائيلي في عقر الدار الأميركية. فهناك منظمات أميركية أكثر تطرفاً من التطرف الاسرائيلي، تموّل عملياً المستوطنات والمستوطنين، وهم بمعظمهم، اميركيون من بروكلين. فإذا كانت الإدارة جدية في جرأتها لإنجاح "خريطة الطريق"، عليها تبني خريطة طريق جريئة داخل الولاياتالمتحدة. وهذا ليس سهلاً، لا مع الكونغرس الذي يتميز بمعظمه بجهل رهيب لمنطقة الشرق الأوسط عموماً ولضرورة إزالة المستوطنات الاسرائيلية خصوصاً، اذا كانت للحل السلمي فرصة... ولا مع المؤسسات الفكرية الأميركية المتطرفة التي أخذت على عاتقها حماية المستوطنات بمقدار حماية اسرائيل من السلام. فأدوات الضغط المباشر على شارون متوافرة لدى الإدارة، وهي تتضمن بالتأكيد تمويل اسرائيل. لكن تمويل التطرف والمستوطنات في اسرائيل يتعدى الإدارة الأميركية. فكما طالبت الحكومات العربية بوقف تمويل التطرف الفلسطيني لمساعدة حكومة عباس، على الإدارة الأميركية ان تطالب المؤسسات في عقر دارها بوقف تمويل التطرف الاسرائيلي لمساعدة حكومة شارون. وكما طالبت الادارة سورية باتخاذ اجراءات نحو المنظمات الفلسطينية المعارضة للسلطة الفلسطينية، عليها ان تطالب الكونغرس باتخاذ مواقف نحو التطرف الاسرائيلي المعارض ل"خريطة الطريق". وهذا يعني تحدي الكونغرس الى وقف تمويل الاستيطان والمستوطنين. ثم هناك أيضاً أفراد ومنظمات ومؤسسات داخل الولاياتالمتحدة يمولون الاستيطان والتطرف الاسرائيلي خارج القانون، وعلى أن تتحداهم باجراءات وجرأة. جرأة الادارة الاميركية على خوض معركة "خريطة الطريق" لها خلفية ذات علاقة بالرؤية والمبادئ وباعادة انتخاب جورج دبليو بوش رئيساً، وبمواقف مميزة لأقطاب مهمة في الجالية اليهودية الاميركية، وبحدث العراق وتأثيره في الصقور في الادارة وبشخصية جورج دبليو بوش. اثناء المقابلة مع الرئيس الاميركي الاسبوع الماضي، كان واضحاً ان بوش رجل يعقد العزم لأسباب تتعدى الحسابات السياسية، على رغم اهميتها الأساسية في حساباته. بدا واضحاً انه يعتبر "خريطة الطريق" خريطة تنفيذ لرؤيته الشخصية التي يؤمن بها، رؤية تحقيق سلم عربي اسرائيلي ينتهي بقيام فلسطين دولة ذات معنى، ومتواصلة. هذا لا ينفي ان اقطاب ادارته المنغمسين في اعادة انتخابه رئيساً، على الأرجح، ارتأوا ان حظوظه افضل بكثير لو تمكن من صنع السلام العربي الاسرائيلي مما هي في ظل عراق بعد الانتصار العسكري المفعم بالأخطار والاخطاء. الصقور في ادارة بوش منهمكون الآن في الحؤول دون تحول الانتصار العسكري الاميركي في العراق الى مستنقع توريط لأميركا ولرئاسة بوش ما بعد الانتصار. لذلك يبدون اليوم في غير وارد تجنيد جهودهم وراء احباط "خريطة الطريق" الى قيام فلسطين. انما هناك ايضاً بوادر شبه تحالف بين مستشارة الامن القومي كوندوليزا رايس، ووزير الخارجية كولن باول في عزمهما على انجاز رؤية بوش لأسباب تتعلق بولائهما للرئيس الاميركي كما باقتناعهما بأن هذا في المصلحة العليا للولايات المتحدة. ولربما حدث ان ما وقع عليه رايس باول من قرار سياسي لاقى تطلعات كارل روف، الوكيل الأول لاعادة انتخاب بوش، لسبب انتخابي. مبادرة اقطاب فاعلة في الساحة اليهودية الاميركية الى دعم "خريطة الطريق" في وجه موجة معارضة لها، حدث مهم على الساحة الاميركية. فالرسالة التي بعثت بها 16 من أبرز القيادات اليهودية دعماً للخريطة لها اثر بالغ الاهمية ليس فقط على الحكومة الاسرائيلية، وانما ايضاً على اعضاء الكونغرس. فهذه سابقة، وجورج دبليو بوش يفهم اهميتها. لذلك اخذها جزء من تكتيك "الشراكة" في استراتيجية تنفيذ الرؤية. وهذه "الشراكة" لبنة في بناء الشراكة الأوسع التي تضم فاعلين ولاعبين في "توقعات" الرئيس الاميركي القسرية الطوعية. فهذا رئيس يبدو ظاهرياً رجلاً عادياً غير بارع في الحنكة السياسية أو في صنع التاريخ. انما حذار الرهان على المظاهر. فهناك مقدار من الايمان والتصميم، وربما الحس بالرسولية الذي يجب التنبه اليه عند درس شخصية جورج دبليو بوش. فهو ليس مجرد عابر سبيل منهمك في صنع تاريخه الشخصي. انه منهمك في صنع التاريخ بطرقه المختلفة. والرهان عليه قرار مصيري.