تحتل ألمانيا في الوقت الراهن مكانة مهمة في الاتحاد الأوروبي، وقد ازداد تأثيرها بعد أن اصبح اقتصادها منافساً لاقتصاديات أكثر الدول تقدماً، وقد لعبت دوراً عسكرياً في حرب البوسنة والهرسك بعد أن كان محرماً عليها أي عمل عسكري طبقاً لاتفاقية الاستسلام في نهاية الحرب العالمية الثانية. في عام 1973 وعندما اندلعت حرب تشرين قال ويلي "كمستشار لألمانيا قلبي يخفق لإسرائيل وحبي هو إسرائيل"، وعندما سأله الصحافي ما إذا كان على كل الألمان أن يشعروا مثله؟ أجاب برانت: "لا يمكن أن توجد في ألمانيا قلوب حيادية. كل الألمان يجب أن تخفق قلوبهم لإسرائيل". وبحسب هذه "القاعدة" الألمانية الفريدة، دفعت ألمانيا ليس فقط الأموال تحت مسمى التعويضات، بل أيضاً الأسلحة، ولكن أضخم قذائف مدفعية قذفها الألمان على العرب هي قذائف الرأي العام الألماني. أستاذان جامعيان في ألمانيا قدما بحوثاً حول الظاهرة المعادية للعرب في ألمانيا، هما البروفسور كينث ليوان في كتابه "حرب الشرق الأوسط في الصحافة الألمانية الغربية"، والأستاذ الجامعي سامي مسلم في أطروحته لنيل الدكتوراه من جامعة بون في عنوان "صورة العربي في الصحف الألمانية الاتحادية"، والاثنان وصلا إلى نتيجة بعد تحليلات واسعة لكبريات الصحف الألمانية، أن الصحف الألمانية تقدم صورة مشوهة ومهزوزة وغير حقيقية عن العرب. الصورة الألمانية لم تعد ثابتة كما كانت، وبحسب مصادر من الإعلام الألماني لم يبق بالإمكان تحمل المزيد، وعلى ألمانيا أن تعيد حساباتها وسياساتها تجاه إسرائيل وأن تتخلص بالتالي من "عقدة الذنب" التي ظلت تلازمها أكثر من نصف قرن تجاه اليهود، وذلك في ضوء ما تقوم به إسرائيل من أعمال وممارسات تجاه الفلسطينيين، ويبدو أن ألمانيا الموحدة بدأت تتحرك بهذا الاتجاه، وتتراجع عن مواقفها التقليدية المؤيدة لإسرائيل، وذلك من خلال الانتقادات الشديدة المعلنة. ومن خلال دعم هذا الاتجاه بدءاً من تجميد العلاقات التجارية مع إسرائيل مروراً بخفض شحنات الأسلحة وقطع الغيار العسكرية إليها، وانتهاء بالمواقف السياسية المنتقدة لما يقوم به الجيش الإسرائيلي في المناطق الفلسطينية المحتلة. مع زيارة شارون للمسجد الأقصى واندلاع الانتفاضة ومن ثم خسارة باراك الانتخابات ومجيء الليكود بزعامة شارون إلى الحكم في إسرائيل أخذت بوادر التحول في الموقف الألماني إلى الظهور. ومع أن شارون زار ألمانيا بعد وقت قصير من انتخابه الأول إلا أنه لم يلق الحفاوة التي يقابل بها عادة رؤساء حكومات إسرائيل الزائرون. كتب روبرت نويديك يتساءل "كيف ينتخب آرييل شارون رئيساً للحكومة الإسرائيلية، فشارون شخص غير قابل للانتخاب، إنه من المسؤولين عن مجازر صبرا وشاتيلا وعلى الأرجح فهو المسؤول الأكبر عنها. شخص كهذا لا يمكن أن يكون رئيساً لحكومة إسرائيل، بالقدر الذي لا يمكن أن يكون فيه رادوفان كاراجيتش رئيساً لكيان صرب البوسنة من جديد، إن إسرائيل تخسر حاضرها ومستقبلها". ولم يكن نويديك المعروف بصداقته لإسرائيل المعلق الألماني الوحيد الذي انتقد سياسات شارون بصوت عال بل شاركه كثيرون لم يخطر في بال أحد أنهم سيكتبون يوماً كلمة ضد إسرائيل في ألمانيا. ومن الانتقادات الشديدة ما جاء على لسان الرئيس الألماني الاتحادي يوهانيس راو من الحزب الاشتراكي الديموقراطي الحاكم الذي أكد بوضوح رفضه المطلق للسياسات والممارسات التي تقوم بها حكومة آرييل شارون والقوات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. ووزير الدفاع الألماني الأسبق رودولف شاربينغ كان من أبرز المؤيدين لفرض عقوبات على إسرائيل بسبب عملياتها العسكرية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وقال في هذا الصدد إنه يؤيد تجميد إرسال شحنات أسلحة وقطع غيار لمحركات وصناديق تروس الدبابات "ميركافا" الإسرائيلية التي استخدمت على نطاق واسع في الهجمات الإسرائيلية. وحتى المستشار غيرهارد شرويدر وجد نفسه مضطراً لاتخاذ موقف إزاء ما يحدث، فأشار إلى تغير مهم في توجيهاته وسياساته عندما قال إنه لن يعارض مشاركة قوات ألمانية في قوة دولية لحفظ السلام في المنطقة وأنه يدعم أي مبادرة لحل صراع الشرق الأوسط. وماذا عن الموقف الألماني من الحرب الأميركية على العراق؟ للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية تقف السياسة الخارجية الألمانية على نقيض الموقف الأميركي حين انتقد المستشار شرويدر في حديثه لصحيفة دي تشايت الألمانية في 15/8/2002 المؤيدين توجيه ضربة عسكرية أميركية للعراق قائلاً إنهم يضعون أولويات زائفة للشرق الأوسط، مؤكداً أن الذين يرغبون في تسيير الجيوش ضد العراق يحتاجون أولاً الى المشروعية وهذا ببساطة غير مؤكد، واستبعد تقديم دعم مالي وعسكري للحملة العسكرية على العراق، مشيراً إلى أن الأولوية يجب أن تعطى لعودة مفتشي الأممالمتحدة لأن ألمانيا غير مستعدة للتورط في مغامرة خطرة. وفي خطابه أمام البرلمان الألماني "البوندستاغ" بتاريخ 13/2/2003 أكد المستشار الألماني موقف حكومته الواضح من الحرب وهو الموقف القائم على منع الحرب وإقامة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط، وقال حرفياً: "لن نشارك في الحرب تحت أي ظرف". هذا الموقف الرسمي الألماني دعمته التظاهرات التي انطلقت في برلين والمدن الأخرى وسار فيها مئات الألوف، وكانت بمثابة الاستفتاء على الموقف الألماني من الأزمة العراقية. وبعد انتهاء الحرب جددت الحكومة الألمانية تمسكها بموقفها المبدئي، وشاركت كلاً من فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ في الاعلان عن إقامة "نواة" قوة عسكرية مشتركة للتدخل السريع بحلول حزيران يونيو 2004، واقترحت الدول الأربع أيضاً إنشاء "نواة ذات قدرة تخطيط جماعية" تسمح بتنفيذ عمليات للاتحاد الأوروبي من دون اللجوء إلى وسائل حلف شمال الاطلسي وقدراته. صحيحٌ أن المستشار الألماني غيرهارد شرويدر أكد أن هذه الخطوة "ليست موجهة ضد حلف الناتو"، لكن الصحيح أيضاً أن واشنطن لم تعتد من قبل على سماع هذه المواقف عن الجانب الأوروبي. * باحث سوري.