من منا لا يعرف قريباً أو صديقاً أو جاراً أو زميلاً سافر الى لندن طلباً للعلاج؟ عملية قلب مفتوح، تصغير أنف، علاج اشعاعي، تصحيح نظر بأشعة الليزر، استئصال ورم، شفط دهون، حقن بوتوكس، زرع كبد. تتعدد الأسباب، والوجهة واحدة: عاصمة الضباب. وعلى رغم ان بريطانيا ليست الأكثر تقدماً في المجال الطبي - على الأقل تقنياً - في العالم، إلا ان العلاج في لندن يأتي ضمن منظومة متكاملة تخدم المريض العربي. فهي - جغرافياً -أقرب الى الشرق الأوسط من اليابان مثلاً أو الولاياتالمتحدة الاميركية. والأطباء البريطانيون معروفون عالمياً بدقتهم البالغة واتباعهم المفرط في العناية لخطوات العلاج، بدءاً من التشخيص، ومروراً بالعلاج، وانتهاء بمتابعة المريض بعد العلاج للحفاظ على ما تم الوصول اليه. وفي منتصف السبعينات، ساهم انتعاش الوضع الاقتصادي، لا سيما في دول الخليج العربية، في ان تتبوأ لندن بحق موقع الصدارة بين المرضى العرب. وقد فطنت الحكومة البريطانية لذلك، فلم توفر جهداً لتشجيع وجذب السياح العرب، الأصحاء والمرضى. فهيئة السياحة البريطانية نشطت في منطقة الخليج العربي، وصدرت الكتيبات والروزنامات عن كل ما يلزم السائح في بريطانيا، من حجز أماكن الإقامة، وتغيير العملة، والعلاج، والترفيه، وذلك باللغة العربية. وتزامن ذلك، أو ربما نتج عنه، إقبال عدد كبير من رجال الأعمال والأثرياء العرب في مجال ملكية المستشفيات الكبرى في لندن. وكانت تلك خطوة ذكية بجميع المقاييس. فالمريض العربي يفضل ان يسافر الى لندن بحثاً عن العلاج المتقدم، لكنه في الوقت نفسه يريد اقامة علاجية من نوع خاص، لا يفهمها سوى أبناء بلاده. وهناك بالطبع، عامل الربح، فهو شبه مضمون. وكانت البداية في شارع صغير في شمال "أوكسفورد ستريت" أو "واحة المتسوقين"، "كافنديش سكوير" يمثل أول "هارلي ستريت" أو "شارع الطب" كما يطلق عليه البعض. عيادات ومستشفيات متراصة متلاصقة تتباهى بأناقتها، ونظافة واجهاتها، وتنوع اختصاصاتها وحسن موظفات استقبالها. ويبدو ان سكان الشارع من أهل الطب لم يتركوا مجالاً للسكان الارستقراطيين الذين كانوا يقطنون بيوت الشارع الفاخرة الى عام 1845، حين حل الاطباء محلهم لخدمة سكان المنطقة من أصحاب المراكز العالية والجيوب المنتفخة التي تسمح بدفع أجور الكشف الباهظة. وفي أوائل الثمانينات، شاع اسم "هارلي ستريت" كثيراً بين المرضى العرب. وظهرت اصوات وأقلام عدة في الاعلام البريطاني تتهم أصحاب العيادات والمستشفيات في "شارع الطب" باستقطاب أموال العرب تحت اسم العلاج من أمراض لا وجود لها وحالات باحثة عن الراحة والاستجمام في مستشفى فندقي. لكن الوضع تغير بعدما توسعت قاعدة علاج العرب في لندن لتشمل مستشفيات عدة خارج حدود "هارلي ستريت"، وفتح العديد من السفارات العربية مكاتب طبية لها في لندن للتنسيق بين المرضى في بلدانهم والجهات المعالجة لهم في لندن. وساهم ذلك بشكل كبير في تقنين الأمور، ووضع حد للاستغلال الذي كان يقع ضحيته عدد من المرضى تحت مسمى العلاج. وتبدأ رحلة علاج المريض العربي في لندن من بلده عن طريق الجهة المتكفلة بعلاجه، أو عن طريق الطبيب المعالج له في حال قيام المريض بتمويل رحلته العلاجية. وهو ينصح بعدم البدء في اجراءات السفر إلا بعد حصوله على موعد محدد من المستشفى الذي ينوي الخضوع للعلاج فيه. وهذا الموعد لا يمكن الحصول عليه إلا بعد تلقي الطبيب في لندن التقارير الطبية اللازمة، والتي اجريت في موطن المريض، وذلك لتكوين رأي مبدئي في الحالة. وبناء على هذا الرأي، يحدد الطبيب حاجة المريض إما الى دخول المستشفى أو التردد على العيادة الخارجية. وقد يطلب الطبيب من المريض عمل اشعات أو تحاليل معينة قبل مجيئه الى لندن، وفي ذلك توفير للوقت والنفقات. يقول منسق علاقات الشرق الأوسط في مستشفى كرومويل في لندن الدكتور محمد زهران ان عمل الاشعات وتصوير شرايين القلب والمخ والتحاليل الطبية وغيرها أقل كلفة في البلدان العربية، واجراؤها في بلد المريض يوفر له جانباً من كلفة الإقامة واجرائها في لندن. وبذلك يصل المريض لندن جاهزاً لمقابلة الطبيب الذي يحدده اختصاصيو المستشفى تبعاً للحالة. ويتم اجراء الحجز اللازم له للإقامة في المستشفى أو للتردد على العيادة الخارجية قبل وصوله، وذلك لعدم تبديد وقت وموازنة المريض أو الجهة المتكفلة بعلاجه. ويشير زهران الى ان غالبية المرضى العرب تكفلهم حكوماتهم، وذلك باستثناء نسبة بسيطة جداً تأتي على حسابها الخاص. واغلب الحالات التي تأتي الى لندن للعلاج هي حالات أمراض القلب والأورام وزرع الأعضاء. ومن أبرز الأسباب التي تدفع المريض العربي لطلب العلاج في لندن توافر الفريق المعالج بمستوى عال ومتقدم، بمعنى ان جراح القلب ومساعديه والمسؤول عن تشغيل الاجهزة المعقدة مثل جهاز القلب والرئة الصناعي ومجموعة تمريض العناية المركزة وما بعد خروج المريض منها، يشكلون جميعاً فريقاً واحداً متكاملاً في كل عملية جراحية دون استثناء. ويبدو ان استمرار وجود بعض أوجه القصور في التمريض، لا سيما الذي يتلو اجراء العمليات الجراحية، في عدد من البلدان العربية يدفع المرضى وأقاربهم الى التمسك بالعلاج في العاصمة البريطانية. ويلعب أقارب المريض العربي في لندن دوراً كبيراً، وهو ما يشير اليه زهران بالقول: "نحن العرب اكثر عاطفية من الانكليز. فالمريض الانكليزي يصل المستشفى للخضوع لعملية جراحية وحده أو معه شخص واحد على الأكثر سرعان ما يتركه بعد التأكد من ان كل شيء على ما يرام. اما المريض العربي، فلا يقل عدد مرافقيه بأي حال من الأحوال عن اثنين أو ثلاثة". ونظراً لاختلاف عاداتنا وتقاليدنا العربية، فإن المريض كثيراً ما يطلب من مرافقيه قراءة القرآن الكريم له، أو مشاركته في مشاهدة فيلم عربي، أو تذوق وجبة عربية أثناء اقامته. وعلى رغم المساعدات التي يقدمها المرافقون لقريبهم المريض والمحافظة على ارتفاع حالته النفسية، إلا ان وجودهم أحياناً ما تكون له آثار سلبية. يقول زهران: "أحياناً يصر المرافقون على تمضية الليل مع المريض، وهو ما يزعج بقية المرضى، والمريض نفسه الذي يكون في حاجة الى النوم والراحة. وكثيراً ما يهب المرافقون الى استدعاء الممرضات لخوفهم من ان يحدث مكروه لمريضهم، وذلك مثلاً لحصول رعشة أثناء النوم، أو سعال أو غير ذلك، وأغلبها يكون أشياء طبيعية لا تستدعي ازعاج فريق التمريض والمريض نفسه". ونظراً لاعتماد النسبة الغالبة من المجتمعات العربية على "انتقال المعلومات شفهياً"، فإن ذلك احياناً يسبب نوعاً من المشاكل. فخضوع الجار لعملية جراحية في القلب اجراها الطبيب الفلاني في لندن وشفاؤه بالكامل، لا يعني ان النتيجة ستكون مطابقة في كل حالات القلب التي يجريها الطبيب نفسه. وهذا ما يوضحه زهران بقوله ان "المريض العربي يأتي الى لندن للعلاج بتوقعات عالية جداً، وكثيراً ما تكون غير واقعية. فأغلب الأطباء في لندن له تخصص وينبثق عنه تخصص آخر أضيق وأكثر دقة". وهذا يعني ان المريضين اللذين يعانيان مشكلة ما في القلب لن يخضعا بالضرورة لمشرط طبيب قلب واحد. وحتى لو كانت المشكلة واحدة، قد تكون في مرحلة اكثر تقدماً في احدهما من الآخر. أضف الى ذلك ان استجابة جسم كل منا للجراحة والعلاج تختلف من شخص الى آخر. فكثيراً مثلاً ما يشكو المريض من ان حالته لم تتحسن بعد يومين من خضوعه للجراحة، على رغم ان فلان الذي خضع للجراحة نفسها كان يتمشى في حديقة المستشفى بعد يوم ونصف يوم فقط. وثمة مشاكل أخرى قد يتعرض لها المريض العربي تنتج عن عدم درايته بالقوانين المنظمة للعمل الطبي في بريطانيا. وأبرز مثال يكون في حالات زرع الكبد. فالمريض العربي حين يتكبد عناء السفر، ويسدد كلفة المستشفى وغيرها لا يتوقع ان ينتظر طويلاً ليتم زرع الكبد له. فالقانون البريطاني يعطي أولوية الانتظار في حالات زرع الكبد للمرضى الانكليز، يليهم المرضى الأوروبيون، وأخيراً يأتي دور المرضى من خارج أوروبا. وهو قانون لا يمكن تخطيه ولا حتى بعرض دفع مبالغ مجزية من المال. ويشير زهران الى عدد من المشاكل التي تنجم احياناً عن اختلاف العادات والدين، فمثلاً المريضة العربية في العناية المركزة يصر أقاربها على تغطية جسمها بملاءة، وهو ما بدأ في تفهمه الأطباء والممرضات البريطانيون. وهناك كذلك عامل الوقت، فكثيراً ما لا يلتزم المريض العربي بالموعد المحدد له لمقابلة الطبيب، وقد ينتج عن ذلك مشاكل عدة. وتقدم مستشفيات عدة في لندن خدمات موجهة للمريض العربي مثل كتابة اللافتات باللغة العربية، وتعيين موظفي استقبال عرب يرشدون المريض لحظة وصوله. بل ان عدداً من المستشفيات - مثل مستشفى كرومويل - لديه موظفون عرب في قسم "خدمة العملاء" مهمتهم تقديم نوع من الاستشارات الاجتماعية والتحدث مع المريض وأقاربه لمساعدتهم على محو الإحساس بالغربة والقلق، هذا بالإضافة الى وجود مترجمين لتسهيل مهمة الطبيب أو الممرضة في ان يفهم المريض طبيعة مرضه والمطلوب منه في فترة العلاج والنقاهة. وعلى رغم توسع قاعدة الخدمات التي تقدمها المستشفيات في لندن للمريض العربي، إلا ان اعداد المرضى العرب انخفضت كثيراً مقارنة بما كانت عليه في منتصف السبعينات وأواخرها. صحيح انه لا توجد احصاءات توضح اعداد المرضى العرب، نظراً لأن الغالبية تأتي بتأشيرة سفر سياحية، الا ان العاملين في المجال الطبي يؤكدون ذلك. وهناك أسباب عدة لهذا الانخفاض. فقد زاد عدد المستشفيات والمراكز الطبية الاختصاصية والتي تقدم خدمات على أعلى مستوى في الدول العربية، لا سيما دول الخليج العربي ومصر. فغالبها يستعين بخبراء أجانب مع الأطباء العرب الذين لا يقلون عن زملائهم الأجانب خبرة وحنكة. كما تقدمت امكانات المستشفيات العربية بشكل ملحوظ سواء من الناحية التقنية أو الإدارية. وعموماً، في حال تعذر علاج المريض العربي في بلده أو تفضيله السفر الى لندن، فإنها تفتح ذراعيها له، لكن برجاء الحجز مسبقاً، والالتزام بالمواعيد، والاقتصاد في المرافقين، والتسليم بأن حالة فلان ليست مطابقة لحالة علان، وان المريض ليس دائماً على حق.