شعرها الفضي يحمل آثار السنين. بدت لافتة أمس وسط بريق الاحتفالات التي جددت طقوساً تمتد 900 سنة، هي عمر أقدم مؤسسة سياسية في بريطانيا. في كاتدرائية وستمنستر، المجاورة لمبنى البرلمان وساعة بيغ بن، وقفت السيدة الوقور تحتفل بذكرى ذلك اليوم الذي أحنت فيه رأسها قبل نصف قرن، ليكلل التاج هامتها ولتتوّج ملكة على بريطانيا العظمى وأراضيها التابعة. في ذلك اليوم سارت يحيط بها جمع غفير. كانت تبدو مثل فراشة بيضاء خرجت لأول مرة إلى النور. ذيل فستانها الطويل انساب وراءها، تحمله ست وصيفات وقد رصع بشعار المملكة المتحدة ودول منظومة الكومنولث التي كانت تعد 650 مليوناً آنذاك. 130 ألفاً قضوا الليل ينتظرون على طول الطريق البالغ ثمانية كيلومترات والذي سلكه الموكب الملكي، بينما تواصلت الحفلات الموسيقية في الشوارع حتى ساعات الفجر. الاهتمام كان كبيراً. مشاهد احتفال التنصيب الباذخ نقلتها محطة "بي بي سي" وألفا صحافي من حول العالم. ساعتان احتاجهما سير موكب المرافقين وكبار الضباط وزعماء العالم وكبار الشخصيات الآتية من فيتنام إلى أفغانستان، خلف الموكب الملكي وسط لندن حيث احتشد ثلاثة ملايين متفرج. كان حدثاً عالمياً بدت فيه الشابة الرقيقة عملاقاً كبيراً تتجاوز ظلاله مساحة جسدها الضئيل. نصف قرن مر والشابة صارت عجوزاً. لكنها لم تغير عاداتها. فهي لا تزال تتوجه الى الاحتفالات بالعربة الذهبية إياها التي تجرها ثمانية خيول مطهمة، كما حدث أمس، وحيث حضر ألف مدعو الاحتفال. بينهم كان 16 فرداً من كبار أفراد الأسرة المالكة، و34 طفلاً من "أطفال التتويج". هؤلاء ولدوا في 2 حزيران يونيو 1953، وبلغوا أمس 50 سنة كاملة لم يعرفوا فيها عاهلاً غير اليزابيث الثانية. الملكة كان عمرها عندما نُصّبت ملكة 27 سنة. كانت تسلمت السلطة قبل ذلك بسنة، في 6 شباط فبراير 1952، عقب الوفاة المفاجئة لوالدها الملك جورج السادس. احتفال تتويجها المتضمن ست مراحل يعود الى القرن الرابع عشر، جرى في الصباح وأعد بعناية. أريد له أن يكون باذخاً يعكس مجد الامبراطورية الآفلة التي تسلمت الشابة الرقيقة زمامها، والتي كانت العاهل التاسع والثلاثين الذي ينصب وفق طقوسه الدينية. السنوات مرت. تراكمت. العام الماضي احتفلت بمرور 50 سنة على صعودها العرش. أمس احتفلت بذكرى تتويجها. هذه السنوات تغير فيها العالم، ومعه تراجعت الملكية وأراضيها بين يدي اليزابيث. قبل أربعة قرون انقلبت الملكية من سلطة مطلقة إلى سلطة يكون فيها الملك تابعاً للبرلمان. صارت ملكية دستورية أبقت رقبة ملوك بريطانيا بعيدة عن مقصلة النواب والشعب. اليوم بدل المقصلة صارت هناك الصحافة والجرائد الفضائحية. وصار قصر باكنغهام يشكو الصحافيين ويطلب منهم هدنة بين فترة وأخرى. في الوقت ذاته صارت بريطانيا دولة كبرى تشكو فقدانها مكانتها كدولة عظمى. اليزابيث الثانية حضرت مساء أمس، مع بقية أفراد العائلة المالكة، احتفالاً أقامه ابنها ولي العهد الأمير تشارلز، وحضرته كاميلا باركر بولز، حبيبته التي تفتقد الحسن. لكم تغيرت الأمور في عهد الملكة وفي حياتها! لم يعد أحد يجد غضاضة في حضور الغريمة الباهتة الحسن. الأميرة ديانا صارت شيئاً من الماضي، وأيقونة جميلة تضاف الى الايقونات التي تضاف الى تاريخ عائلة تبقى أسرارها لغزاً مكشوفاً مفتوحاً للجمهور والنقد. الاحتفالات أمس كانت مناسبة تاريخية، ذات طابع فولكلوري. قالت بوضوح إن الملكية في بريطانيا مؤسسة تعاند الزمن وترفض أن تغمرها أمواج الأيام.