الحب والزمن لا يزالان هاجس البشرية القديم منذ سقوطنا المدوي من الفردوس. ينفتح الحب من جهته على مروحة من المشاعر التي تتدرج بين الشهوة والشغف والوله المرضي، وينفتح الزمن بدوره على الشيخوخة والموت. كل منهما يذهب في اتجاه معاكس الآخر. لكنه فيما يفعل ذلك يلتقي معه عند نهاية الخيط او عند اطراف الروح. ذلك ان الحب تكثيف للحياة وإضرام للنيران تحت غابة الجسد المدفوع الى غليانه الأقصى. ولأنه كذلك فهو يتصل بالموت ويهيئ له الطريق الملائم. من هنا نستطيع ان نفهم المغزى الذي يحمله كتاب "مصارع العشاق" بين طياته. فالعاشق يغص بجمال المعشوق ويختنق بفتنته التي تجعله يشهق تحت شرفة جماله المباغت شهقة توصل الى الموت. وإذا كان هذا الأمر حال العشاق المتساوين او المتقاربين في السن فإنه في حالات تفاوت الأعمار اكثر فداحة وضراوة. فالمرء في حالة الشغف او الحب يشعر انه يحتاج الى جماع طاقته وكامل حيويته الجسدية لكي يكون جديراً بمن يحب وجاهزاً لالتقاط ما يصدر عنه من سحر ومسرات ومفاجآت. لا بل ان العاشق الحقيقي يتمنى لو يملك اكثر من جسد واحد لكي تستطيع روحه ان تطمئن الى صبواتها المتعاظمة. انه يحتاج الى آلاف الأيدي والأفواه والآذان والعيون لكي يوازن بين تطلبات نفسه العطشى وبين طاقات جسده المحدود. من هنا تبدو جلية نذر المأساة الناجمة عن التفاوت في السن بين العاشق والمعشوق. ففيما ينزلق القلب بخفة عن ظهر الزمن الأملس ويحافظ على شباب صبواته يترنح الجسد في المقابل تحت مطرقة السنين المتراكمة ويتراجع الى الخلف على رغم محاولات الصمود والمقاومة. هذه الفجوة العميقة بين زمن الروح وزمن الجسد شكلت موضوعاً اثيراً للكتّاب والشعراء والفنانين. فالمبدعون يتحسسون اكثر من سواهم وطأة الزمن على اجسادهم ويصغون بانتباه الى دبيب الشيخوخة الزاحف نحو عروقهم بثبات. لكنهم بدلاً من الاستسلام يذهبون في الاتجاه المعاكس ويقعون على الحياة وقوع المنتحرين على الموت. وكتعبير عن رفضهم للزمن يبحثون عن اكثر اشكال الحب تفجراً وضراوة ويتعلقون بحبيبات في مقتبل العمر. كأنهم بذلك يتماهون بالأجساد التي يعانقونها او يموهون تجاعيد اجسادهم بتلك النضارة التي تندلع من اجساد حبيباتهم الغضة. وإذا كان الشعر قد اسهب كثيراً في التعبير عن الحب الذي يخترق الحواجز ويتخطى العثرات فإن الرواية بدورها افردت لموضوعة الحب والزمن الكثير من العناية والاهتمام. لا بل ان الرواية بما تمتلكه من قدرة على التقاط الجزئيات والتفاصيل هي اقدر بالطبع على تلمس الموضوع من جوانبه المختلفة وتوتراته العاطفية الكثيرة. يمكننا ان نستعيد في هذا السياق ثلاثاً من روائع الأدب الروائي وأدب السيرة حيث يتواجه الحب والزمن بشكل عنيف ومؤثر. فكتاب فرانسواز جيلو "حياتي مع بيكاسو" يعكس ذلك القلق الوردي المفعم بالتوتر الذي يعيشه شخصان متحابان احدهما في مطلع العشرينات والآخر في مطلع الستينات. وعلى امتداد مئات الصفحات المشوقة تروي زوجة صاحب "الغرنيكا" الثالثة قصة افتتانها ببيكاسو وتعلقه هو الآخر بها على رغم العقود الأربعة التي تفصل احدهما عن الآخر. غير ان ذلك الحب المدهش والغريب ما تلبث ان تثخنه فوارق العمر والرغبات وتودي به بعد عشر سنوات الى نهايته المحتومة. ليس فقط بسبب المزاج المعقد والمتغير للفنان بل لتفاوت الإيقاع وتباين الحساسية بين الجيلين. ولم يكن امام جيلو في النهاية سوى النجاة بنفسها من ذلك الجحيم الفردوسي الذي لم يعد جسدها الغض قادراً على احتمال عواصفه المفاجئة. الكاتب الألماني توماس مان يقدم في المقابل من خلال رائعته الروائية "موت في البندقية" ملحمة اخرى عن الزمن والافتتان. ذلك ان بطل روايته الستيني يصادف اثناء اعتكافه في مدينة البندقية للكتابة فتى يافعاً في الرابعة عشرة من عمره، وعلى قسط هائل من الجمال، يتبدى الفتى في تلك اللحظة وكأنه رمز للجمال الكلي الذي تقدمه الحياة في صورة اللحم والدم، فيما لا تفعل الكتابة شيئاً سوى محاولة تقليده. وفي معرض مفاضلته بين الكتابة والحياة يكتشف الكاتب الكهل ان الحياة اجمل من الكتابة وأكثر ملموسية منها، ولذا يطارد فتاه الجميل في شوارع البندقية الى ان يقضي مصاباً بالكوليرا بين مستنقعاتها الملوثة. اما رواية فلاديمير نابوكوف الشهيرة "لوليتا" فهي تكشف بدورها عن الشغف الآثم الذي يقوم بين رجل كهل وشهواني وبين ابنة زوجته الجميلة التي لا تتجاوز الثانية عشرة من العمر. يحاول نابوكوف في تلك الرواية ان يميط اللثام عن الشياطين التي تسكن الداخل الإنساني والتي يكسر جنونها حاجز الزمن وحائط العمر. الروايات الثلاث تحولت الى افلام سينمائية اشبه بالتحف المرئية. فالسينما وحدها هي الأقدر على تجسيد الكتابة بالملموس وإظهار الفجوة المأسوية على حقيقتها. وفي كل من هذه الأفلام نعيش نحن المشاهدين تمزّقاً كاملاً بين الخيارات، بين الحب الذي يواجه السنوات وبين العقل الذي يربّي بذرة المأساة ويدفع المصائر باتجاه سوداوي. وإذا كان الناس ينقسمون بين منتصر لجنون الحب وبين منتصر لواقعية العقل وسطوة قوانينه، فإنهم مع ذلك يتوحدون حول جمالية الفن وسحر الإبداع الذي يحول المأساة مهما عظمت الى ارض من المتعة المقروءة والشغف المرئي.