يمكن القول ان "السطحية في التغيير" من أبرز المشكلات التي لم تستطع المجتمعات العربية تجاوزها منذ "عصر النهضة". فالتغيير الذي أصابنا على مختلف المستويات وعبر التيارات الأيديولوجية المتباينة، إنما كان في المظهر والشكل فحسب، أما الأسس التي نرتكز عليها في تعاملنا مع الواقع، فتكاد تكون هي نفسها، بقطع النظر عن التنوع الشكلي الموجود بين تلك التيارات، على مختلف الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وازداد الأمر سوءاً حينما أصبح تقويمنا لأنفسنا يستند في درجة عالية إلى تلك المظاهر والشكليات، من دون الالتفات إلى المضمون القابع والمستتر خلف تلك المظاهر، حيث حمى ذلك المضمون ذاته من نفاد نظرات التأمل التي كان يجب أن تخترق حجبه الكثيفة. بل وصل الأمر إلى أننا بتنا نقيس درجة حضارتنا وتقدمنا من خلال معيار قدرتنا على استهلاك ثمار غيرنا من الحضارات المنتجة للتقدم. أما واقع الحال، فلا يمكن لنا أن نقول إن أرقى مدينة عربية بكل ما فيها من مظاهر مادية وثقافية متقدمة حضارياً على إحدى مدن أفريقيا السوداء. بل قد نجد في بعض الحالات مجتمعات لا تملك من الشكل شيئاً، لكنها من حيث المضمون أغنى وأثرى مما نحن عليه. إن جميع مجتمعاتنا - المحافظة منها والليبرالية - لا تزال تقليدية" تستورد الحداثة من دون أن تستوعبها. فمع جميع المظاهر التي لدينا، لنا أن نسأل: هل مصدر المعرفة عندنا العقل والعلم أم التقليد؟ وهل الحقيقة تتأسس على التجربة والممارسة العقلية والتفكير المنطقي أم أنها تخضع لاعتبارات تتنافى مع ذلك كله؟ هل حكوماتنا ديموقراطية أم فردية؟ هل استطعنا أن نتجاوز حسابات العلاقات الأسرية وسلطة التقاليد القبلية والعشائرية في الحياة العملية؟ هل تخلصنا من الخرافات السائدة بيننا قروناً من الزمان؟... هذه الأسئلة وغيرها تظهر لنا بجلاء أننا لم نبرح مكاننا منذ عقود. إن المظاهر التي تخفي ما بنا من تخلف حضاري لها وجهان: مادي محض، نحو الطرق والمباني والتقنيات والخدمات المتوافرة وغيرها من الوسائل التي أخذناها وبشيء من التشويه - من حضارات غيرنا، فاستبدلنا بها واقعنا السابق الذي خلا منها. ووجه ثقافي يبرز في رفع شعارات فكرية حديثة ذات منطلقات علمانية غربية باختلاف ألوانها ودرجاتها، في مقابل الشعارات التقليدية القائمة أساساً، والتي يمكن اعتبارها شعارات دينية في محصلة الأمر مهما تنوعت. وبشيء من التأمل، سنجد أن التباين بين منطق الآخذين بأحد تلك الشعارات يخفي من ورائه وحدة تقودنا إلى ساحة فكرية تجمع الحداثي والشيوعي والملحد والعلماني والإسلامي والصوفي و...إلخ. فنحن إذاً أمام شخص اعتباري واحد يتنوع في مظهره بحسب الظرف الذي يملي شروطه عليه في حين جمود عقلية تعامله مع الواقع. وما سبق أتى لأننا ومنذ "عصر النهضة" لم نكن أصحاب مدارس فكرية مستقلة، بل لم نستطع الاقتراب من تلك الاستقلالية، وغاية ما قمنا به هو استنساخ أفكار ورؤى وأدوات "الآخر". في مقابل اتجاه رفض "الآخر" محدثاً قطيعة معه، ولكن تاه في ماضيه ليبحث عن حاضر له. والجميع نزل رؤيته وقناعاته المستنسخة على واقعه من دون إعادة إنتاج لها وفق رؤية ذاتية خالصة ومعالجات خاصة من شأنها أن تكون منطلقاً تأسيسياً في تشكيل مدارس فكرية تتسم بالأصالة والمعاصرة في آن وتنطلق من رؤيتنا لواقعنا، وتفاعلنا الإيجابي معه. ونتيجة لذلك أصبحنا بين سنديان طرف تقليدي تابع للماضي في شكل مطلق يكبِّل الإرادة والإبداع باسم الأصالة والتدين، ومطرقة تقدمي تابع للمنظومات الحضارية الغربية ، يكبلهما باسم الحداثة والدخول إلى العصر. ولكن كلاهما لا يقدم للأمة ما تحتاجه هي بل ما كان "نافعاً" لغيرها. إضافة إلى أنهما يقيدان حرية العقل، مع اختلاف طفيف وسطحي في الأسلوب. فأحدهما يقيده لمصلحة عقل الشيخ وما يمثله من استيعاب تام للتراث بكل مشكلاته، والآخر لمصلحة عقل المنظر الغربي وما يمثله من قوة حضارية مادية وفكرية قاهرة. ومن دون شك فالتقدمي، خصوصاً الغربي منه، ستكون له جاذبية أكبر على المدى البعيد، وبالتالي يقل بالتدريج عدد من يتعاطف مع التراث المتعلق بأهداب الماضي، ليس بسبب قوة طرح التقدمي، وإنما بسبب ضعف النموذج التراثي الماضوي. وفي كل الأحوال فإن الأمر في عمقه يستوي بين انتماء إلى نمط ثقافي تقليدي أو إلى نمط ثقافي حديث، والفرق بينهما يتجلى في قضايا كثيرة لعل من أبرزها "ذهنية الاستهلاك"، فيتحول الصراع الفكري من صراع يراد منه تقديم فلسفة حياتية يمكنها أن تدفعنا نحو خلق واقع خاص بنا، إلى صراع عن مقدار ما يجب أن نستهلكه من الحضارات الأخرى. والشواهد على هذا تتعدد، ولا أريد أن أخص خطاباً من دون آخر بالإدانة بقدر أن أشير إلى جوهر المشكلة، وللمراقب أن يتابع مظاهر المطالبة بالأصالة، وتلك التي تدعو إلى الحداثة، وينظر إلى أي حد يشكل المظهر النتيجة النهائية المطلوبة لكل طرف من الأطراف. نعم، هناك حالات فردية كثيرة تجاوزت الواقع الذي هي فيه، وسعت لأن تفكر خارج حدود ما رسم لها، وعملت على تجاوز الأسوار المضروبة على عقولها وعقول غيرها، ثم سعت في نقل مشاهداتها إلى من سواها لرفع مستوى إدراكهم إلى سماوات الوعي. وهذه حالات لا تنتمي إلى تيار من دون آخر، بل تتوزع عليها جميعاً، كما تتناقض في ما بينها كثيراً، ولكنها في نهاية الأمر محاولات جادة لتجاوز الشكل والنظر في العمق. ومع ذلك ظلت حالات عزلها واقعها، واكتفى جمهورها بأن أخذ كل منهم الشكل الثقافي الملائم له، تاركاً ما سوى ذلك. وبناء على ما سبق، فإن تقويمنا لأي صراع فكري بين أطراف متعددة يجب أن يستند أولاً إلى تقويمنا لمدى العمق الذي وصل إليه كل طرف في الانسجام مع فكرته. * كاتب سعودي.