مع ولادة الطفل البريطاني جايمي وايتكر، المُعَدَّل وراثياً ليكون "مخزناً" لخلايا تستعمل في علاج اخيه الكبير تشارلي، تدخل الانسانية فعلياً زمن التلاعب بالمكونات الوراثية للكائن البشري، ويشار الى هذا الامر باسم "الطفل حسب الطلب". مما يوحي ب"المساواة" بين الانسان وأي من السلع الجاهزة في الاسواق، كأنما الامر يتعلق ب"سوق رقيق" من صنع علم الجينات. والدا الطفل زوجان بريطانيان كانا طلبا من القضاء في بلادهما اذناً بأن يحصلا على وليد، بواسطة التلقيح الاصطناعي، تتطابق جيناته مع ما لدى ابنهما تشارلي. والسبب أن الأخير مصاب بنوع نادر من الانيميا، "دياموند بلاكفيرن"، تمهد الطريق أمام ظهور أنواع عدة من السرطان قد تقضي عليه قبل بلوغه الثلاثين. ولم يصب بهذه الأنيميا النادرة الا خمسون طفلاً في كل بريطانيا. ونصح الأطباء الوالدين بالسعي للحصول على خلايا منشأ Stem Cells تتوافق مع التركيب الجيني لتشارلي المصاب. كيف السبيل الى ذلك؟ باستخدام الفحص الجيني المبكر. وبواسطة التلقيح الاصطناعي، يمكن الحصول على عدد من الخلايا الملقحة، ثم إجراء فحص جينات كل منها. وعند العثور على بويضة ملقحة يتوافق تركيبها مع "المطلوب"، تؤخذ لتزرع في بطن الأم. ثم تتكاثر البويضة وتكبر. وهكذا يولد طفل له جينات تتطابق مع مواصفات وراثية معينة. ولم يسمح القضاء في بريطانيا بذلك سوى في حال واحدة، في العام 2002. وحينها، ثارت ثائرة جمعيات حقوق الانسان والدفاع عن حقوق المرأة. ورأوا في الامر بداية لكابوس التلاعب الجيني بمواصفات البشر. لعل ولادة تشارلي حققت اسوأ الكوابيس. فها هنا طفل سعى والداه الى الحصول عليه، لا للتكاثر الطبيعي، ولا حباً بالاطفال، بل ببساطة، ليكون "مخزناً" لخلايا يحتاج إليها طفل آخر! انها الولادة الثانية من نوعها. ويعني ذلك ان الأمر لم يبق استثنائياً، وانما تعدى ذلك ليحول التلاعب الوراثي بمصير الانسان الى قاعدة مقبولة. والأدهى ان النقاشات والاحتجاجات لم تجد شيئاً. ويبدو ان "صندوق باندورا" علوم الجينات على وشك ان ينفتح على ما يمتلئ به من كوارث يصعب تخيل مداها. انها لعنة تحول العلم مجرد اجراءات تقنية، مع غياب لأي بعد اجتماعي او اخلاقي. انفلات التكنولوجيا الى آخر مدى، حتى عندما يكون المدى هو الانسان نفسه. ودليل الغياب يأتي من صحيفة "دايلي مايل" البريطانية التي اهتمت بولادة جايمي. فأجرت استفتاء في موقعها على الانترنت عن "الطفل حسب الطلب". فأجاب 65 في المئة من القراء بقبول الامر في حالات طبية استثنائية، واعترض 19 في المئة كلياً، ووافق 15 في المئة. وتشهد هذه الارقام على الثغرة الواسعة بين تطور العلوم والتكنولوجيا من جهة، وتلكؤ مفاهيم المجتمع والفلسفة والاخلاق لوضعها في سياق ما يخدم حضارة الانسان وتطوره من جهة ثانية. انها واحدة من أصعب مآزق الانسان في القرن 21.