مهدت الحرب على العراق لمرحلة جديدة في الحياة السياسية البريطانية مع ظهور أكثر الحوارات السياسية حماسةًً وبروز انقسامات عميقة، خصوصاً في اليسار لم تشهد بريطانيا مثيلاً لها منذ سنوات طويلة. ويرى بعض المراقبين العراق كمنعطف "مصيريّ" في التاريخ البريطاني منذ حرب السويس عام1956. وقد يرغم رئيس الوزراء البريطاني توني بلير على الاستقالة جراء هذه المسألة، تماماً كما استقال أنطوني إيدن بعد أزمة السويس. وقال الوزير العمالي السابق اللورد دينيس هالي إنّ على بلير الاستقالة إذا تبيّن أنّه كان على خطأ في مسألة أسلحة الدمار الشامل. ولا شكّ في أنّ التناقض حول مسألة الحرب على العراق في تفاقم مستمرّ، خصوصاً مع فشل قوات التحالف في العثور على أسلحة الدمار الشامل حتى الوقت الحالي. وصرّح وزير الخارجية السابق روبين كوك، الذي استقال من منصبه كقائد لمجلس العموم احتجاجاً على الحرب، بوضوح، إنّ الحكومة أرسلت الفرق العسكرية إلى المعركة على أساس "خطأ" وإنّها اقترفت "حماقةً كبرى". ثمة شكوك متزايدة بأنّ الحكومتين البريطانية والأميركية تلاعبتا بالاستخبارات في شأن أسلحة الدمار الشامل قبل الحرب. وعزّزت هذه الشكوك تصريحات صدرت أخيراً عن أعضاء في الإدارة الأميركية وفي شكل خاص عن وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه بول وولفوفيتز. ويظهر عدم شعبية الحكومة المتزايد، كنتيجة للحرب جزئياً ولمسألة أسلحة الدمار الشامل، في ردّ الفعل السياسي والإعلامي والجماهيري المناهض لتعديل حكومة توني بلير المعلنة في 12 و13 من حزيران يونيو الجاري. واعتبر إلغاء "بلير" منصب كبير القضاة - Lord Chancellor وتعيينه صديقه المقرّب الذي كان يشاطره شقةً ذات يوم، اللورد "فالكونر" غير المنتخب لمنصب جديد هو وزير الدولة للشؤون الدستورية، برهاناً إضافياً على تعجرفه واعتماده على أصدقائه القدامى لتأدية مهمات حكومية حساسة. ونشأ لغط حول تفاصيل التعديل الوزاري، ورأى البعض في هذا الأمر انعكاساً سلبياً على الحكومة. وأدخلت الإصلاحات على النظام القضائيّ تقضي بإلغاء منصب كبير القضاة - رئيس مجلس اللوردات من دون استشارات برلمانية اعتيادية. وتحتلّ مسألة عدم العثور على أسلحة دمار شامل أهميةً قصوى بالنسبة إلى بريطانيا، خصوصاً انّ خيار اللجوء إلى الحرب افتقر إلى الشعبية الضرورية كما تجلّى بوضوح عبر تظاهرات الاحتجاج التي عمّت لندن في حينه، بمشاركة أكثر من مليون نسمة ونيّف، فاعتبرت أكبر تظاهرة شهدتها بريطانيا في تاريخها. واتخذ بلير من خطر امتلاك صدام أسلحة دمار شامل مبرراً أساسياً لشنّ حرب ضدّه. كما كانت هذه الأسلحة حجر زاوية في عملية إقناع الحكومة بشرعية الحرب. وربح بلير التصويت البرلماني لمصلحة شنّ الحرب الذي تبعه حوار الثامن عشر من آذار مارس على رغم تصويت 139 عضواً عمالياً في البرلمان ضدّ هذا الاقتراح. وقرّر بعض الأعضاء العماليين الذين عارضوا الحرب سابقاً دعم الحكومة في هذا التصويت بسبب ما قدّمه بلير من براهين حول امتلاك العراق أسلحةً للدمار الشامل. ويشعر هؤلاء اليوم بأنّهم خدعوا وبالندم لدعمهم الحرب. يجد الشعب البريطاني والسياسيون البريطانيون أنفسهم في هذه المرحلة أمام بعض الأسئلة المهمة المتعلّقة ببريطانيا ومكانتها في العالم في القرن الواحد والعشرين. ما هو مستقبل العلاقات الأميركية - البريطانية؟ إلى أي درجة ستشاطر بريطانيا وجهة نظر الولاياتالمتحدة حول العالم وتدعمها في مغامرات مستقبلية "لتغيير النظام"؟ ما هو موقع بريطانيا في أوروبا خصوصاً وأنّ الحكومة قرّرت أخيراً عدم الانضمام إلى الوحدة النقدية في الوقت الحالي، ما هو دور الأممالمتحدة المستقبلي بعد الضربات التي تلقتها نتيجة الحرب على العراق؟ وشهد المناخ الجديد هذا تحدياً لبعض ميول سياسة بريطانيا الخارجية التي درجت عليها قبل الحرب. فبعكس الولاياتالمتحدة مثلاً اعتمدت بريطانيا سياسة التزام مع سورية وإيران خلال السنوات القليلة المنصرمة. وأوصى مركز السياسات الخارجية في تقرير نشر قبيل اندلاع الحرب، بتسليط بريطانيا الضوء على نقاط الاختلاف مع الولاياتالمتحدة لا سيما في شأن سياستها حيال إيران وسورية وعملية السلام في الشرق الأوسط وذلك في سبيل تعزيز صورتها في العالم العربيّ. لا شكّ في أنّ الحرب شوّهت صورة بريطانيا لدى الكثير من بلدان الشرق الأوسط. وتسعى الولاياتالمتحدة اليوم إلى فرض تغيير أوسع نطاقاً في الشرق الأوسط مخاطبةً سورية وإيران بلهجة متشدّدة مهدّدة، فما هو الموقف الواجب على بريطانيا اتخاذه من الموضوع وإلى أي درجة ينبغي عليها مساندة أميركا؟ أما بالنسبة إلى عملية السلام، فقد بات الرئيس الأميركي جورج بوش نفسه معنياً بها مع نشر "خريطة الطريق" وزيارته إلى الشرق الأوسط. ولا يخفى على أحد أنّ تغيّر تصرّف بوش في هذه المسألة مردّه تشجيع بلير، علماً أنّ الرئيس الأميركي يبقى الحلقة الأساسية، إذ يفوق رئيس الوزراء البريطاني أهميةً في هذه العملية. جازف بلير بالكثير عندما أيّد الحرب على العراق، حتى قيل إنّه غامر بمستقبله السياسيّ بدعمه خيار الحرب. كما شوّهت صدقية رئيس الوزراء بفعل الادعاءات الحالية في شأن أسلحة الدمار الشامل، وصوّرته المقالات الصحافية ورسومها الكاريكاتورية على أنّه شخص غير موثوق فيه. الوضع بالغ الجدية طبعاً، فإذا خسر بلير ثقة حزبه والجمهور، كيف للعالم أن يصدّق ما يقوله هو وحكومته؟ بالنسبة إلى بلير ومؤيديه تكمن مبررات الحرب في نتائجها. ويحمل كلّ يوم في طيّاته برهاناً جديداً على فظاعة النظام الذي كان يترأسه صدام حسين، مع اكتشاف مقابر جماعية وغرف تعذيب وسجون مرعبة. ويؤكّد مؤيدو الحرب استحالة تحرير الشعب العراقي نفسه من طغيان صدام حسين ونظامه البعثيّ لولا التدخّل العسكري الخارجي. ويؤكّد بلير وجوب التركيز على مسألة إعادة إعمار العراق "شعب العراق سعيد للغاية للتخلّص من ديكتاتور ظالم أودى بحياة الآلاف". لكن رغبة بلير التركيز على المستقبل لا ينفي وجوب الردّ على أسئلة مهمة في شأن الاستخبارات المحيطة بمسألة أسلحة الدمار الشامل. وكانت الحكومة البريطانية نشرت ملفين للاستخبارات قبل الحرب: الأول في أيلول سبتمبر الماضي، وهو يزعم، من بين أمور أخرى، إمكان إطلاق العراق أسلحةً للدمار الشامل في غضون 45 دقيقة. وزعمت مصادر مجهولة الهوية ضمن الاستخبارات بأنّ "عشرة داونينغ ستريت" أمرت أجهزة الاستخبارات بتعديل الملف قبل عرضه على النواب والجمهور. ونشر الملف الثاني في كانون الثاني يناير ولم يؤخذ على محمل الجدّ، بعدما تبيّن أنّه نقل من مصادر على شبكة الإنترنت، بما فيها أطروحة دكتوراه لطالب في الولاياتالمتحدة استند فيها إلى وثائق يربو عمرها على عشر سنوات. دافع بلير عن نفسه بشدة ضدّ اتهامات بالكذب على بلاده وعلى النواب حول مدى تطوّر برامج أسلحة الدمار الشامل العراقية. وأشار في مجلس العموم أخيراً إلى أنّ ادعاءات تغيير وثائق الاستخبارات بأوامر من "عشرة داونينغ ستريت" ادعاءات "عارية من الصحة تماماً". كما رفض الإقرار بتزوير الوثائق التي تظهر العراق محاولاً استيراد اليورانيوم من النيجر على رغم تبيان تزويرها. وألقى رئيس مجلس العموم الدكتور جون ريد اللوم على "عناصر خبيثة" في أجهزة الاستخبارات لتزويدها الصحافيين معلومات مناهضة للحكومة. وستتولى لجنتان مهمة إجراء التحقيقات في البرلمان: لجنة المخابرات والأمن، ولجنة الشؤون الخارجية. طالبت لجنة الشؤون الخارجية بلير والمسؤول النافذ في إدارة الاستراتيجيات والاتصالات "أليستير كامبل" بالبراهين إلا أنّهما لم يمتثلا للطلب على ما يبدو. واعتبر هذا الرفض تصرفاً متعجرفاً وعزّز من الانطباع القائل بأنّ لديهما ما يخفيانه. ويطالب المحافظون بتحقيق مستقلّ ودعموا اقتراحاً تقدّم به الليبراليون الديموقراطيون في مجلس العموم يدعو إلى تحقيق قضائيّ مستقلّ ولكنّ الاقتراح سقط كونه لم يحصد إلا 203 أصوات في مقابل 301. ويواجه بلير حالياً اتهامات يوجهها إليه أعضاء حزب العمال في البرلمان وأعضاء سابقون في الحكومة استقالوا بسبب الحرب العراقية. وسار عدد من الوزراء الصغار على منوال روبن كوك فاستقال قبل الحرب، وفي الثاني عشر من أيار مايو استقالت وزيرة الدولة لشؤون التنمية الدولية كلير شورت وكانت شورت تعرّضت لانتقادات قاسية لعدم استقالتها قبل الحرب. وأطلقت هذه الأخيرة سلسلة اتهامات مزعومة ضدّ بلير من بينها اتفاقه سراً مع بوش على اجتماع في كامب ديفيد في أيلول سبتمبر الماضي لشنّ الحرب، وهو اتهام دحضه بلير بشدّة. مع فشل العثور على أسلحة الدمار الشامل، كثرت الأسئلة حول الأسباب الحقيقية الطارئة الكامنة وراء خوض الحرب من دون إذن الأممالمتحدة. ويتساءل من يرى في الإطاحة بصدام مشروعاً طويل الأمد للمحافظين الأميركيين الجدد عما إذا كان بلير يشاطرهم هذا المشروع أو لم يدرك ماهيته تمام الإدراك. قبل عرض برنامج "بانوراما" في محطة ال"بي بي سي" تحقيقاً في الثامن عشر من أيار في عنوان "حزب الحرب" كان الجمهور البريطاني قليل الاطلاع بمسائل المحافظين الأميركيين الجدد وآرائهم. وسئل المحافظ الجديد البارز ريشارد بيرل في البرنامج عما إذا كان لتوني بلير أي قاسم مشترك مع المحافظين الجدد، فردّ قائلاً: "أعتقد أن لحسّ توني بلير الأخلاقي صدىً لدى الكثير من المحافظين الجدد. قد يصدم بسماعه هذا الأمر ولكن الحسّ القائل بصوابية تحرير العراق هو حسّ المحافظين الجدد ولم يكن وجهة نظر الكثيرين بمن فيهم بلير نفسه". وليست مسألة أسلحة الدمار الشامل السبب الوحيد لزيادة القلق في بريطانيا حول مسألة العراق. فانعدام الاستقرار المستمرّ وغياب القانون والافتقار إلى الخدمات الأساسية والأزمات الصحية والعذاب المستمر خاصةً عند الأطفال مرعبة للغاية. ويجد البعض صعوبةً في تفهّم هذا القدر من التخطيط الضعيف حول مصير العراق بعد الحرب. ويبدو أنّ الوجود العسكري البريطاني في العراق سيستمرّ أكثر مما أوهم به الجمهور. وقد يستاء الناخبون من هذا الأمر ومن كلفته المالية. ويتوقّع أن يبقى 25 ألف جندي بريطاني في جنوبالعراق في المستقبل المنظور، وثمة قلق فعليّ في شأن تحوّل الوجود البريطاني إلى التزام طويل الأمد كما هي الحال في ايرلندا الشمالية. وكيف لبريطانيا بعد التزامها العسكريّ في العراق التزويد بقوى إضافية متى طلب إليها دعم عملية حفظ السلام في بلد آخر على سبيل المثال؟ هذا فضلاً عن أنّ الحرب على العراق لم تخفّف من الإرهاب الدوليّ كما ظهر من خلال الاعتداءات الإرهابية في الرياض والدار البيضاء. وتمّ تحذير الجمهور البريطاني من اعتداء مرعب قد يكون بمواصفات اعتداءات الحادي عشر من أيلول في الولاياتالمتحدة. ويعي الجمهور البريطاني في شكل متزايد أنّ التقارير التي شاهدها على شاشات التلفزة إبّان الحرب لم تنقل الحقيقة بأكملها. منذ اندلاع الحرب عرضت برامج على شاشات التلفزة حول "الحرب التي لم نرها" التي أظهرت الكلفة الحقيقية للعذاب الذي تحمّله الشعب العراقي وقوات التحالف على حدّ سواء. وانتقد التحالف محطة الجزيرة أثناء الحرب، إلا أنّ برنامجاً وثائقياً صوّر بعد الحرب وعرض على شاشة "بي بي سي" أظهر المحطة الفضائية العربية من منظار مختلف، وكتب البريطانيون مقالات عدّة معبّرين عن إعجابهم بها وبموظفيها ومقاربتها الإخبارية. سلطت الأحداث المحيطة بحرب العراق الضوء مجدداً على مشروع "بلير" العمالي الجديد وأسلوبه الرئاسي للحكم والسرية المحيطة به والطريقة التي يحاول عبرها التحكّم بالجدول الإخباري والتلاعب به. وثمة اتهامات تعود إلى زمن قديم حول اهتمام "العمال" الجدد بالعرض أكثر من النهج. وتزايد عدد "المستشارين الخصوصيين" غير المنتخبين في عهد بلير في شكل ملحوظ، واتهم هؤلاء بالتدخل في عمل الموظفين الحكوميين. وأنشأ بلير فريقه الخاص من مستشاري السياسة الخارجية، الأمر الذي أزعج البعض في الخارجية البريطانية. ومن مستشاريه مبعوث الى الشرق الأوسط هو اللورد ليفي، رجل أعمال يهوديّ يعتبر من أهم مموّلي حزب العمال. ويملك اللورد ليفي مكتبه الخاص في وزارة الخارجية البريطانية. وفي "عشرة داونينغ ستريت" مستشاران ديبلوماسيان: السير دايفيد مانينغ، والسير ستيفان ول، ولكلّ منهما موظفوه. أما السير دايفيد مانينغ رئيس مستشاري بلير للسياسة الخارجية فهو سفير سابق في إسرائيل وفي حلف شمال الأطلسي وسميّ سفيراً مقبلاً في واشنطن. كما عيّن جون سويرز ممثلاً خاصاً في العراق، وهو مستشار سابق لبلير في السياسة الخارجية وسفير سابق في القاهرة. شكّل تدخّل بريطانيا في العراق صدىً غير حميد لتاريخها الإمبريالي في العراق وفي بقاع أخرى من الشرق الأوسط، إلا أنّ حفنة محدودة من الناس فحسب، رحّبت بدور إمبريالي جديد لبريطانياوالولاياتالمتحدة. وأشار المؤرّخ البريطاني نيل فرغسون الذي عرضت حلقات برنامجه "امبراطورية" EMPIRE المؤيد للإمبراطورية البريطانية في بداية العام الحالي على شاشة القناة الرابعة في "النيو ريبابليك" إلى ضرورة أخذ الولاياتالمتحدة عبرة ممّا حدث مع البريطانيين بعد احتلالهم مصر في العام 1882. واقترح فرغسون أخذ بول بريمر العبر من كرومر "لا نفع في إنشاء لجنة حكم انتقالي مكوّن من أبرز قادة العراق وحتى التخطيط لجمعية وطنية طالما تبقى إدارة المسائل العسكرية، الضرائبية والمالية في يد الأميركيين". * كاتبة بريطانية.