يقع القارئ على مادة بانورامية غزيرة في كتاب "مداريات حزينة" للأنتربولوجي الشهير "كلود ليفي شتراوس"، تتوزع بين الفنون والطبائع البشرية، والمعرفة المتعدّدة الأبعاد، على رغم أن الكتاب يتحدث عن رحلات المؤلف الاستكشافية إلى أميركا اللاتينية فيما بين 1934 و9193، وإلى الهند في أوائل الخمسينات. صدر الكتاب للمرة الأولى في العام 1955، وبعد ما يقارب نصف قرن على صدوره، تتصدى دار كنعان في دمشق لإصدار ترجمته العربية بتوقيع المترجم محمد صبح، وتقديم فيصل درّاج الذي يقول عنه: "مداريات حزينة"، كتاب متخصص وبعيد عن الاختصاص في آنٍ واحد... نظرت إليه الأوساط العلمية بتحفظ محسوب، مدافعةً عن "العلم الخالص" المبرّأ من الروح الشعرية وأطياف التأمّل، بينما تمنّت أكاديمية غونكور لو أن الكتاب رواية، كي تتوجه اليه بجائزتها الشهيرة، ولم تكن تلك المواقف المختلفة إلا صورة عن كتاب لم يشأ أن يكون كغيره". انطوى الكتاب على يوميات "إنسانية" قلقة متسائلة، وعلى معارف "إثنولوجية" جديدة، واستعاد عنواناً هجس به شتراوس ذات مرة، ذلك أنه شرع في شبابه بكتابة رواية عنوانها "المدارات الحزينة" تخلّى عنها بعد ثلاثين صفحة. يدافع شتراوس عن التنوّع الثقافي الإنساني وضرورة الحفاظ عليه، ويدعو إلى استنباط الوسائل التي تمدّه بالتجدّد والديمومة، وينبذ دعاوى العرق والجنس وسلطة القوة، ولا يحيل مصطلح "الشعوب البدائية" الذي أخذ به على قيمة أو تقويم، وإنما هو مصطلح أملاه الاستعمال المتواتر لا أكثر. فهذه الشعوب بقيت على ما أرادت أن تبقى عليه، لأنها ترى في أزمنتها القديمة مثالاً أعلى ينبغي الحفاظ عليه. في "مداريات حزينة" يحاور عالم الأنثربولوجيا ثقافة مغايرة، ويحاور حدود المعرفة... ومع أن الكتاب يشير إلى الرحلات العلمية ورومانسية المغامرة والفضول الإنساني، إلاّ أنه كما يشهد الكثيرون: نصٌ مدهش، ينطوي على معرفة متعدّدة الأبعاد، ترضي عالم النفس واللغوي والأنثربولوجي والشاعر، وترضي أساساً القارئ المتأمّل الذي يرى في التفاصيل الإنسانية الصغيرة، عوالم غامضة لا حدود لها. لعل صدور الترجمة العربية لكتاب "مداريات حزينة" الذي يعتبر من عيون المؤلفات الأنتروبولوجية في العالم، ولو متأخرة، يعتبر من الأحداث الثقافية المهمة عربياً. فالترجمة تتيح للقارئ الذي لا يجيد أي لغة أجنبية ان يقرأ كتاباً يجمع بين البعد المعرفي ومتعة النص.