عام 1865 كتب هنريك إبسن مسرحيته الحادية عشرة "براند" التي حاول فيها بعض الشيء أن يخرج عن الإطار الواقعي، بل "الطبيعي" الذي كان ميز مسرحه منذ بداياته. وهو في هذا السبيل قدم شخصية "براند" الشاعرية، شخصية المناضل الذي يتنطح الى أن يكون مثالياً يحارب التردد والاستنكاف عن الفعل، وروحية التسوية ومبدأ النفعية. وإبسن من بعد كتابته "براند" مباشرة، وعلى رغم انه حمّل هذه الشخصية كل ما يتطلع إليه من قدرة المرء على معرفة ذاته وتحقيق هذه الذات بنفسه، انطلاقاً من أن هذا التحقيق هو ما كان يهمه منذ بدأ الكتابة أصلاً، وجد نفسه يقع فجأة تحت تأثير فلسفة كيركغارد، أحد كبار الفلاسفة الاسكندينافيين في تلك الأزمان... ومنذ المسرحية التالية "بيرجنت"، صارت مسرحيات ابسن مطبوعة بتلك الفلسفة، بحيث ان الشخصيات الرئيسة لديه إنما تمثل صورة مصغرة للمجتمعات التي جعلها التاريخ خاضعة في شكل كلي الى الضغوطات المحيطة والمحبطة. وهذه الشخصيات تناضل وسط هذا المجتمع وقد ألمّت بها أزمة الاختيار كاشفة ضعف الذات ومعضلات التاريخ الشخصي. وهذه الأزمة التي تشكل في الأصل جوهر حياة الفرد لدى كيركغارد، نحا ابسن الى أن يعبر عنها، ولكن في مسرحيات آثر ألا يجعل الأحداث الحقيقية والحاسمة تدور خارج المسرح، ويصار الى التعبير عنها بالحوارات والكلام، بل مباشرة أمام أعين المتفرجين على الخشبة مباشرة. وبهذا يكون إبسن فصل مسرحه نهائياً عن مسرح شكسبير أو راسين أو غيرهما من المؤلفين الذين آثروا دائماً أن تعبر الكلمات عن الأحداث. وهذا كله يبدو واضحاً في "بيرجنت"، هذه المسرحية التي كتبها ابسن خلال زيارته ايطاليا عام 1867، لكنها لن تقدم للمرة الأولى إلا عام 1876، وهي تعتبر فريدة في مسار إبسن، من حيث شكلها الفني، والحيز الزمني الذي تستغرقه أحداثها، كما من حيث شخصياتها التي تبدو أقرب الى شخصيات الحكايات الخرافية، إضافة الى كون احداثها، التي تتوزع على خمسة فصول تدور في أنحاء متفرقة من اسكندينافيا، ومن العالم أيضاً، إذ ان ثمة في المسرحية أحداثاً تقود بطلها بيرجنت الى شمال أفريقيا، ثم الى القاهرة حيث نراه ذات يوم مسجوناً في بيت للمجانين. والحال أن وجود بيرجنت في هذه المناطق العربية هو ما أعطى الموسيقي إدوارد كريغ فرصة لوضع موسيقى "السوق العربية" في المتتالية التي حملت اسم "بيرجنت" نفسه وكتبها انطلاقاً من مسرحية إبسن هذه. إذاً، فإن المتآلفين حقاً، مع الطابع الاجتماعي والواقعي الذي هيمن على القسم الأكبر من مسرحيات إبسن المعروفة، يجدون صعوبة في اعتبار "بيرجنت" عملاً من أعماله. أما هو، ابسن، فقد رأى دائماً انه في كتابته لهذه المسرحية المتمحورة حول هذه الشخصية، إنما قدم الصورة المضادة تماماً لشخصية "براند"، معتبراً الشخصيتين وجهين لميدالية واحدة، تنرسم من خلال تكاملهما صورة القلق الإنساني وضياع الفرد أمام مجتمع يعامله من ناحية بمثالية، ومن ناحية ثانية، بلا مبالاة... ولكن أبداً بامتثال في الأحوال كافة. تتألف مسرحية "بيرجنت" من خمسة فصول تمتد زمنياً لتشمل حياة بطلها كلها تقريباً، وكذلك تتعمق في حياته واصفة خيباته وأوهامه وضروب تردده ومخاوفه. وشخصية "بيرجنت" التي من الواضح ان ابسن استقاها من بطل حكاية شعبية نروجية قديمة، شخصية معروفة في الحكي الشعبي في تلك البلاد، ومغامراتها تروى عادة حول مواقد الشتاء الطويل. وهو، في المسرحية، فلاح نروجي شاب شديد الكسل ولا يبالي بأي شيء على رغم سحر شخصيته الذي يقرب الآخرين منه. وفي مواجهة بيرجنت هناك أمه العجوز المريضة آزي، التي تلومه دائماً بسبب كسله، وذات مرة، في أول المسرحية، تلومه خصوصاً لأنه خسر الحسناء الثرية هيغشتاد التي كان يمكنه تزوجها، لكنها تحتفل الليلة بعرسها بعدما يئست منه. على الفور يتحرك بيرجنت ليحضر العرس. وهناك إذ يلتقي الصبية سولفيغ التي تغرم به على الفور، لا يجد نفسه إلا وقد اختطف العروس ليلة زفافها، فاراً بها... لكنه ما إن يصل معها الى البرية حتى يتركها هناك متخلياً عنها. وهكذا يتحول صاحبنا الى هارب مطارد، ونجده يصل الى جبال دوفر، حيث يتزوج ابنة ملك الترول. لكنه سرعان ما يهجرها بدورها، من دون أي سبب واضح ويتجه بعيداً... وهو خلال هربه، يلتقي هذه المرة بالقوة الغامضة السوداء المسماة "بويغ العظيم"... وتكون هذه القوة على وشك قتل بيرجنت عقاباً له وتخلصاً منه، حين تعلو أصوات كورس نسائي تنقذه معربة عن حمايتها الدائمة له بفضل سحر شخصيته وتوقه الدائم الى المغامرة. وهذا ما يحول بيرجنت هذه المرة، من هارب الى خارج على القانون... لكنه يقوده الى الغابات حيث يعيش حقبة سعيدة من حياته، خصوصاً أن الحسناء سولفيغ التي كان التقاها أول المسرحية وانجذبت إليه، تلاقيه هناك متفانية في حبه... وبدأ الاثنان عيش حياة تكاد تكون طبيعية، لكن القدر كان رسم له مصيراً مختلفاً. إذ في تلك الآونة بالذات، تكون ابنة ملك الترول عرفت مكانه وجاءت لتنتقم منه على هجره إياها. وازاء هذا الخطر الجديد يخبر بيرجنت حبيبته سولفيغ ان عليه الرحيل، ولا بد لها هي من أن تنتظر عودته... ثم يطير هارباً، ماراً في طريقه بالمكان الذي تعيش فيه أمه المريضة آزي، والتي يجد الآن انها تحتضر. وهنا، بدلاً من الحزن واللوعة أمام الفراق النهائي، يخفف بيرجنت من رعب أمه، إذ يقنعها بأنه سيرافقها في رحلة حلمية يوصلها خلالها الى باب الفردوس الساحر حيث سيكون مآلها. وإذ "يوصل" بيرجنت أمه الى مرقدها الأخير، يجد نفسه خالي الفكر والوفاض، يعيش من دون أي هدف واضح، فيبدأ ترحالاً يأخذه من مكان الى آخر، فنجده مرة تاجراً للعبيد في أميركا، ومرة عابد أوثان في الصين يبيع تماثيلها للمؤمنين. ثم نجده يدعي النبوة في شمال أفريقيا حيث يعيش ردحاً من الزمن مستمتعاً بالثروة وبغرام الراقصة عنيترة به... لكن عنيترة هذه سرعان ما تستولي على ما لديه من مال وتهرب. وبعد ذلك نجد أحلامه وحس اللامبالاة والمغامرة لديه تقوده الى القاهرة، لكنه هناك يجد نفسه مسجوناً مع المجانين... وعند ذلك يكون اكتهل ومزقته رحلاته العبثية فيعود الى النروج وقد قرر أن يستقر هذه المرة... ولكن على باخرة العودة يقابله شخص غامض ينبئه أن نهايته دنت، لكنها ستكون محيرة، لأنه ليس سيئاً الى درجة تقوده الى الجحيم، ولا طيبته بحيث تقوده الى الفردوس. وهنا يكون قد وصل ولا ينقذه من مصيره الغامض سوى سولفيغ التي ظلت مغرمة به وفي انتظاره... ومع سولفيغ يكتشف بيرجنت أخيراً ان الحب قد يكون سبباً للعيش وهدفاً لكل حياة. حين كتب ابسن هذه المسرحية كان في التاسعة والثلاثين من عمره... وعلى رغم سعادة نهايتها، التي بدت في الغالب مفتعلة، فإن المسرحية بدت سوداوية غامضة الهدف، بل ان كثراً من النقاد لم يروا فيها عملاً فنياً، بل نصاً فكرياً لا أكثر. وفي المقابل أدرك كثير آخرون شاعريتها ومعانيها الخفية، واعتبروها قمة في انتاج هنريك إبسن، ويمكن أن توضع في مكانة متقدمة بين أعماله الكبيرة، حتى وإن كانت لا تشبهها، مثل "هيدا غابلر" و"بيت الدمية" وخصوصاً "براند" و"معلم العمار" و"رابطة الشبيبة" وغيرها من مسرحيات جعلت من هنريك ابسن 1828 - 1906 واحداً من كبار كتاب المسرح عبر التاريخ، وأحد مفتتحي الحداثة المسرحية في القرن العشرين.