كان ابراهيم ناجي 1898- 24 آذار/ مارس 1953 الذي ما زالت تشغلنا ذكرى رحيله الخمسون، ركناً أساسياً من أركان "جماعة أبوللو" التي ضمت معه علي محمود طه وأحمد زكي ابو شادي وأبا القاسم الشابي وصالح جودت ومحمود حسن اسماعيل والهمشري وآخرين. شاركت "جماعة ابوللو" مع "مدرسة الديوان" العقاد والمازني وشكري في نقل الشعرية العربية من الطور الكلاسيكي التقليدي الذي قاده شعراء "الإحياء" بدءاً من البارودي حتى شوقي وحافظ، الى الطور الرومنطيقي: حيث الاهتمام بالذات الفردية لا بالموضوع الجمعي، وحيث "المحاكاة" هي محاكاة الداخل لا محاكاة الخارج، وحيث اللغة هي لغة الحياة العصرية لا لغة القواميس الجامدة. ولئن كانت مساهمة "مدرسة الديوان" في هذه الانتقالة مساهمة نظرية نقدية أكثر من كونها مساهمة إبداعية شعرية، فإن "جماعة أبوللو" قدمت مساهمتها الكبيرة عبر الابداع الشعري ذاته، محققة شعار العقاد القائل: "إن الشعر من الشعور" وصيحة عبدالرحمن شكري القائلة: "إن الشعر وجدان". وناجي- عندي - هو واسطة العقد في هذه الجماعة المؤثرة في مسار تاريخنا الشعري في العصر الحديث. وقد تنوعت تجربته الشعرية، شأن زملائه الرومنطيقيين بين العاطفة والطبيعة والوطنيات والاخوانيات على أنه اختلف عن رصفائه في ثلاثة ملامح مهمة تتضح عبر دواوينه الاربعة: وراء الغمام، ليالي القاهرة، الطائر الجريح، معبد الليل. الأول: هو أن عاطفته الغرامية التي هي صُلبُ تجربته وتجربة الرومانسيين بعامة كانت مشبوبة متأججة، حتى إنها كانت تدفعه الى المسّ بالمحرمات في بعض الأحيان، ما لم يرق للسلفيين الجامدين آنذاك، ولكن أحداً لم يرفع عليه سيف الله. فهو يشبه بيت محبوبة بالكعبة، في قوله: "هذه الكعبة كنا طائفيها/ والمصلين صباحاً ومساء/ كم سجدنا وعبدنا الحُسْنَ فيها/ كيف بالله رجعنا غرباء". وهو يصرح بأنه "مؤمن" بحبيبه، بينما كفر بالهوى ولعن القدر، في قوله: "قدرٌ أراد شقاءنا/ لا أنت شئت ولا أنا/ عزّ التلاقي والحظوظُ/ السُّودُ حالت بيننا/ قد كدتُ أكفر بالهوى/ لو لم أكن بكِ مؤمناً". ولو أن ناجي كتب ذلك الشعر هذه الأيام لهبّ في وجهه دعاةُ الظلام صائحين بالتكفير والمصادرة، لكن النصف الأول من القرن العشرين كان أكثر رحابة ورحمة. الثاني: اهتمامه بالموسيقى الداخلية الناتجة من علاقة الحروف والكلمات ببعضها بعضاً، ولعله بذلك يمثل جذراً قريباً من جذور التريب اللغوي الذي ازدهر في شعر الستينات والسبعينات وهو ما يتجلى في قوله: "لم أقيّدكَ بشيء في الهوى/ انتَ من حبي ومن وجدي طليقْ/ الهوى الخالصُ قيدٌ وحده/ ربَّ حرّ وهو في قيد وثيقْ/ مزقتْ كفيّك اشواكُ الهوى/ وأنا ضقتُ بأحجار الطريقْ/ كم ظمىَّ بظميَّ يرتوي/ وغريقٍ مستعين بغريقْ". الثالث: هو حضور بعض سمات كتابة "ما بعد الحداثة" - بتعبيرات النقاد - في شعره، من مثل التفاصيل اليومية ورصد الاشياء بحياد - أو تشييئها - واختيار مدخل هامشي للموضوع الشعري المراد، على نحو ما فعل حينما استغرق في وصف تفصيلي للكرسي الذي كانت محبوبته تجلس عليه منذ لحظات. وذلك ما يدفعني الى القول إن شعر الكتابة الشابة الراهنة فيه جذرٌ من ناجي. ناجي، إذاً، ليس مجرد شاعر أساسي من شعراء النقلة الرومنطيقية في شعرنا الحديث، بل إنه صاحب نسغٍ ملحوظ في حركة الشعر الحر التفعيلة التي تلت الحركة الرومنطيقية وفي حركة شعر الحداثة وما بعد الحداثة عند الاجيال الجديدة الراهنة. ولذلك، فإنني اعتبر ابراهيم ناجي شاعراً مظلوماً، لم ينتشر شعره إلا بعد أن غنت له أم كلثوم قصيدة "الاطلال" في منتصف الستينات، على رغم أنه ساهم في تشكيل وجدان الكثير من ابناء جيلي. وأذكر أن قصيدتيه "الاطلال" و"العودة" كانتا من أقانيم حياتي العاطفية في صباي الأول حيث كنت أرقب محبوبة الصبا والمراهقة اثناء سيرها الى المدرسة الاعدادية طبعاً فأسرح وأهيم وأردد بيني وبين نفسي أبيات ناجي التي كنت موقناً انه كتبها من أجل محبوبتي الصغيرة: "أين من عيني حبيبٌ ساحرٌ/ فيه عزٌ وجلالٌ وحياءْ/ واثقٌ الخطوة يمشي مَلكَاً/ ظالم الحُسن شهيُّ الكبرياءْ".