هناك مشهد فكاهي في الحياة اليومية في بريطانيا وربما في الغرب، اذ ينتظر المرء حافلة ركاب لأكثر من ساعة قبل ان يطل عليه ثلاثة دفعة واحدة... وربما ينطبق هذا المشهد على عشاق كرة القدم الايطالية الذين انتظروا 4 سنوات لتأهل فريق ايطالي الى الدور ربع النهائي لكأس دوري ابطال اوروبا، وإذا بهم يجدون ثلاثة أندية هي ميلان وانترميلان ويوفنتوس تحجز مقاعدها ضمن آخر اربعة في اكبر مسابقة في العالم على صعيد الاندية. لكن هل هذا يعني ان الدوري الايطالي وانديته استعادت عافيتها؟ وهل هو مؤشر الى تنحي الكرة الاسبانية عن عرشها؟ لم تخف الصحف الايطالية سعادتها بتأهل ثلاثة من عمالقها الى الدور نصف النهائي، ونشرت عناوين على صدور صفحاتها مثل "العواطف الابدية" و"انجاز وطني" و"ميلان الفردوس" و"المعجزات المذهلة"، خصوصاً بعد سنوات من الاضطرابات والمتاعب المالية وإفلاس بعض الفرق وإجبار عدد كبير منها على "شد الاحزمة"، وايضاً لأن مستوى الفرق تذبذب وأصاب الجماهير بالملل، ما قاد مهاجم ميلان فيليبو اينزاغي الى التعليق بسخرية: "في الايام الاخيرة لم يمل احد من لعبنا". لكن الصحف الاسبانية استمرت بوصف الانجاز الايطالي ب"المحظوظ" وعروض فرقها ب"المملة". فبعد تخطي يوفنتوس عقبة برشلونة وانتر عقبة فالنسيا بصعوبة، وصفت احدى الصحف الاسبانية لاعبي يوفنتوس ب"مصاصي الدماء". فيما اشار مدرب فالنسيا رافايل بينيتز بعد فوز فريقه 2-1 غير الكافي على انتر الى ان النتيجة لم تعكس بصدق مجريات المباراة "اذا لعبت كل الفرق مثل انتر، فإن اللعبة قد تنتهي وتخلو الملاعب من الجماهير... كرة القدم خسرت بفوز انتر"... في اشارة الى عقم اداء الفريق الايطالي. وشرح لاعب المنتخب الاسباني السابق لويس سواريز الذي يعيش في روما الفارق بين الكرتين الاسبانية والايطالية "الجمهور الاسباني يعشق اللعب الهجومي وهذا لم تعكسه الفرق الايطالية وعلى النقيض كان عقم الاداء ينفر حتى الجماهير المحايدة"، وأكد ان عدم وضوح خطط اللعب التي تعتمدها الفرق الايطالية وميولها الى الدفاع العقيم والعميق صنعا شعار "الكرة الايطالية المملة", وربما يستثنى من هذه القاعدة ايه سي ميلان الذي قدم عروضاً قوية بسبب خط وسطه المبدع المكون من البرتغالي روي كوستا والهولندي كلارنس سيدورف والبرازيليين ريفالدو وسيرجينيو والمحلي اندريا بيرلو، لكن يوفنتوس وأنتر اثبتا صحة هذا الشعار... فالاول عوض رحيل النجم الابرز الفرنسي زين الدين زيدان بصاحب الجهد الكبير والابداع المحدود التشيخي بافل نيدفد قبل نحو عامين، وشتان بين قدرات صنع اللعب وخلق الفرص بين الاثنين، وبات مصدر الخطورة والابداع الوحيد في الفريق الحالي الدولي اليساندرو دل بييرو الذي يتأرجح اداؤه من مباراة الى اخرى وعادة ما يعتمد الفريق على الهجمات المرتدة في تسجيل اهدافه وانتصاراته. اما انتر فاعتمد خطة لعب غريبة على عالم الكرة: دفاع مهتز وخط وسط لا يجيد التمرير السليم وذو عقلية دفاعية... لكن خط هجومه ضارب بالاعتماد على العملاق كريستيان فييري وهيرنان كريسبو، بيد أن الانتاج يظل دون طموح جماهيره. والدليل ان الفريق يملك سجلاً في عدد الفرص المصنوعة بين اسوأ ثلاثة فرق في الدوري الايطالي، ولكنه الاكثر تسجيلاً للاهداف، ما يدل الى انه اذا كان فييري يلعب لفريق ذي عقلية هجومية لحطّم الارقام القياسية في عدد تسجيل الاهداف. وتعكس صفقتا انتقال جانلويجي بوفون وفرانشيسكو تولدو العقلية الايطالية الدفاعية، فلا يوجد اي فريق في العالم خارج الدوري الايطالي يصرف مبالغ خيالية لضم حراس مرمى. فيوفنتوس دفع اكثر من 45 مليون دولار لضم بوفون من بارما، فيما تخلى انتر عن نحو 35 مليوناً لضم تولدو من فيورنتينا لضمان قوة الخط الدفاعي. وحتى الوسيلة التي تأهلت بها فرق "سيريا آه" الثلاثة الى الدور نصف النهائي كان فيها الحظ يتحدث الايطالية، فبعد تسجيل فييري هدفه في مرمى فالنسيا واحتسب بهدفين وخرج بعدها مصاباً قبل ان يبدأ مهرجان تألق تولدو في الذود عن مرماه بصورة لافتة، ما دفعه الي التعليق: "اعتقدت انني في حصة تدريبية لعدد الفرص الهائل الذي توجب علي التعامل معه"... فيما تأهل ميلان في الوقت بدل الضائع بتغلبه على اياكس الهولندي، وضمن يوفنتوس انتصاره في الوقت الاضافي، ما دفع مدرب اياكس رونالد كومان الى القول: "ان تمثيل ثلاثة فرق الكرة الايطالية في الدور نصف النهائي كان وليد الصدفة والحظ وليس التفوق". وحتى اصحاب نظريات المؤامرة التي يشتكي منها الايطاليون دوماً بعد كل هزيمة لفرقهم واتهام الحكام باستهدافهم كمت افواههم بعد حرمان برشلونة وفالنسيا من اكثر من ركلة جزاء صحيحة. ولكن كيف حدثت هذه النقلة النوعية في حظوظ فرق "سيريا آه" في ظل انهيار الاقتصاد الايطالي عموماً والكرة الايطالية خصوصاً؟ ربما يكون القول: "علكم تكرهون شيئاً هو خير لكم" ينطبق على حال الاندية الايطالية. فالانهيار الاقتصادي والقوة الشرائية لدى غالبية الاندية حتما عليها الصبر والاحتفاظ بلاعبيها ومدربيها حتى وإن اخفقوا. على عكس العادة السابقة بالتغيير المستمر قبل بداية كل موسم. فحتى قبل عامين كانت هناك 7 فرق عملاقة ميلان وأنتر ويوفنتوس وروما ولاتسيو وفيورنتينا وبارما تجمعها المنافسة الشرسة والغيرة القاتلة، ما يدفعها الى الإنفاق الجنوني غير المحدود او المحسوب على لاعبين ومدربين. لكن على اثر الانهيار اصبحت القوة الشرائية للثلاثة الاخيرة شبه معدومة وسعت الى بيع كل نجومها، ما سنح للثلاثة الاولى باستغلال الوضع. فمنذ 2001 ضم انتر تولدو فيورنتينا وكريسبو لاتسيو وسيرجيو كونسيساو وفابيو كانفارو بارما، فيما حصل ميلان على روي كوستا فيورنتينا واليساندرو نيستا لاتسيو، ويوفنتوس على نيدفد لاتسيو وبوفون وليليان تورام وماركو دي فايو بارما... وبالتالي زاد "المحيط" اتساعاً بين الثلاثة الكبار المتأهلين الى نصف نهائي ابطال اوروبا وأصحاب المراكز الثلاثة الاولى في الدوري وبقية الفرق... وظل روما في الوسط يبتعد اكثر فأكثر. وحتى مدربو الثلاثة الكبار ظلوا في مراكزهم على غير العادة، فكارلو انشيلوتي ميلان وهيكتور كوبر انتر ومارتشيلو ليبي يوفنتوس عينوا في مراكزهم صيف 2001 وسيبقون فيها حتى إن اخفقوا. فهل عادت الكرة الايطالية الى القمة وتفوقت على نظيرتها الاسبانية؟ الموافقون يقولون ان اقوى فريق في العالم والمرشح الابرز لنيل دوري الابطال ريال مدريد خسر في الدورين الاول والثاني امام روما وميلان، فيما يرد الرافضون ان الاندية الاسبانية حصدت اكثر النقاط في نظام "اليوفا" للمسابقتين الاوروبيتين في السنوات الخمس الاخيرة وبفارق نحو 25 في المئة عن مجموع ما جمعته الاندية الايطالية.