حصل فيلم "شيكاغو" كما كان متوقعاً على جوائز عدة في حفلة توزيع جوائز الأوسكار هذا العام. وهنا مقالة عنه. حوّل المخرج روب مارشال المسرحية الغنائية "شيكاغو" الى فيلم غنائي، وفي حين كانت المعالجة المسرحية الموسيقية التي وضعها الراحل بوب فوسي صاحب فيلم "كباريه 1972" تقدم الاحداث بطابع غنائى فيتابع المشاهد على الخشبة احداثاً تجرى في جو موسيقي، ويرى ان الموسيقى ملازمة للأحداث وان الاحداث تقع ويعبر عنها غنائياً، فإن الامر مختلف في الفيلم الذي جاء في مستويين. المستوى الاول وهو التمثيلي نرى فيه الاحداث تقع في شكل واقعي ويقوم الممثلون بأدوارهم كما في أي فيلم تمثيلي آخر، بينما يأتي المستوى الثاني وهو الغنائي كحال تعبيرية عما كنا شاهدناه، او نشاهده في القصة الممثلة. المستوى الثاني يأتي موازياً للمستوى الاول بسبب امكان المونتاج السينمائي ويعبر عنه موسيقياً ويضيف الى القصة خيالاً اكبر ومرحاً ويعمق فكرة الفيلم. نعرف ان القصة تتهكم من النظام القضائي الاميركي الذي تتحكم فيه الشطارة والمال، اي ان من يمتلك المال يستطيع ان يوكل محامياً شاطراً ليعيد تركيب القضية بطريقة لاعب السيرك من اجل كسب عواطف الرأي العام عبر الاعلام وكسب عواطف المحلفين وقناعاتهم ليبرئ موكله. يبدأ الفيلم عندما تقوم روكسي هارت قامت بالدور زيني زيلفيغر المغنية في احد نوادي شيكاغو بقتل عشيقها بائع المفروشات فتحتجز في سجن النساء حيث تلتقي عشرات من النساء اللواتي ينتظرن محاكمتهن بتهم مختلفة منها القتل. تقابل هناك نجمة الفودفيل فيلما كيلي قامت بالدور كاترين زيتا جونز التي كانت تؤدي مع اختها استعراضاً مشتركاً حتى اكتشفت خيانة زوجها مع اختها فأطلقت النار عليهما وقتلتهما. والاثنتان تحلمان في هجر النوادي الليلية والانتقال الى السينما، ولكن هذا الحلم لا يمكن ان يتحقق إلا من خلال الشهرة والمعارف، اما عندما اصبحتا في السجن فعليهما العمل على توكيل محام ماهر يستطيع ان يبرئهما ويخلصهما من حبل المشنقة بغض النظر عن ثبوت التهمة عليهما. ولكن المحامي الشاطر بيلي فلين الذي لم يخسر قضية واحدة من قبل يطلب مبلغاً كبيراً من المال قام زوج روكسي بتأمينه. في السجن، يقوم المحامي ريتشارد غير بتدريب موكلته ليصنع منها نجمة رأي عام من خلال تأليف قصة مغايرة بتاتاً لحال المتهمة وسبب قتلها لعشيقها فتتحول فعلاً الى نجمة تلاحق الصحافة اخبارها وتملأ صورها الصفحات الاولى، وهنا ايضاً تشتعل المنافسة بين المرأتين في كسب الرأي العام وانشغال الصحافة بأخبارهما وصورهما. اما منافستها فيلما كيلي فتشعر وكأن القصة التي رتبتها لنفسها قد سرقت منها. وعندما تبدأ المحاكمة نشعر وكأننا امام نظام قضائي ينجح فيه من يكذب بطريقة افضل ومن يكسب عواطف الناس بغض النظر عن التهم والدلائل وغيرها من الامور القانونية. ونصبح شهوداً على براعة المحامين ومقدرة المتهمين على التمثيل لتغيير القناعات. طبعاً كل ذلك يحدث بطريقة ممتعة وبجو موسيقي غنائي وكأننا لم نبرح النادي الليلي. أما عندما تنطلي هذه الألاعيب على كل من المحلفين والرأي العام والقاضي فتحصل البطلة على البراءة لأنها قتلت دفاعاً عن النفس لأنها كانت حاملاً وانها ارتبطت بعشيقها لأنها تحب ان تكون اماً فإن الصحافة والرأي العام يهملانها فوراً للاهتمام بآخر قاتلة قامت بقتل رجلها على درج المحكمة. الفيلم هنا ينظر بعين نقدية بطريقة طريفة الى ولع الاميركيين في صنع النجوم والغرام بها حتى لو كانوا مجرمين حقيقيين، فاهتمامهم بالبطلة نابع من هذا الهوس وليس لشخص البطلة ولون شعرها الاشقر وموهبتها كمغنية، ما يصيب روكسي هارت بصدمة حقيقية وهي ترى كيف ان عدسات كاميرات الصحافيين بدأت تلمع في وجه قاتلة اخرى بعد ان حصلت هي على براءتها. تكريس الفكرة لقد قدم الفيلم كل ذلك في شكل يستغل الموسيقى لتكريس هذه الفكرة، ومثال ذلك عندما كان ريتشارد غير يرافع تأتي مشاهد الرقص التي قام بها في شكل موازٍ لمرافعته وفي ديكور آخر لتوحي لنا بفكرة ان ما يجري في قاعة المحكمة ليس إلا سيركاً يقوم اللاعب المحامي فيه بتغيير قناعات المحلفين والقاضي لمصلحة موكلته بطريقة ابعد ما تكون عن القانون. هنا يتحول القانون الى شيء ثانوي امام البراعة الشخصية وألعاب الخفة. انها الشطارة التي تخلص المجرمين من حبل المشنقة، وبكلام آخر يتم ذلك لا من خلال الدلائل القضائىة او البحث عن الحقيقة من خلال التحقيق، بل بوساطة "الفهلوة" والشطارة. كما ان الفيلم غمز من طرف الرأي العام والصحافة التي تحول مجرماً بطريقة مسرحية منظمة عن قصد الى بطل هذه الجماهير المأخوذة بأخبار المشاهير وسيرهم والذين، اي هؤلاء المشاهير، تتم صناعتهم بطريقة حاذقة لا مكان فيها للبطولة والشرف بل لا بأس في ان يكون الشخص مجرماً سابقاً قتل بدافع الغيرة او ربما تصبح الشهرة هاجس الناس حتى لو كانت من طريق القتل. إن كل من يشاهد الفيلم يعجب بأداء وحضور كاترين زيتا جونز وبرقصها وغنائها، على رغم حجم دورها الاصغر. ولكن حجم الدور لن يكون عائقاً امام هذه الفنانة لكي تدهش مشاهدي الفيلم وبخاصة في افتتاحيته حينما تأتي الى المسرح لتؤدي دورها بعد ان قامت بقتل زوجها وأختها في سريرها وكذلك في نهاية الفيلم حينما تشكل مع البطلة روكسي هارت ثنائياً فتؤديان معاً "نمرة" ولا أجمل. ان فيلم "شيكاغو" يأتي بعد فيلم "مولان روج" لباز لهرمان. ولا يمكن الحديث عن "شيكاغو" من دون تذكر "مولان روج" مع الاختلاف الكبير في رؤيتيهما، فقد تم تصميم الفيلم الاخير بعد دراسة ما تمتاز به لوحات الفنان تولوز لوتريك الذي كان موجوداً كشخصية رائعة ومؤثرة في الفيلم، اما في "شيكاغو" فقد افتقد الفيلم مثل هذه اللمسة الفنية فاكتفى بأن جعل الاضاءة معتمة في شكل مقصود فطبعت اجواء الفيلم كله، وهي عتمة مأخوذة فعلاً عن عالم النوادي الليلية في شيكاغو، فلم يقع الفيلم في تضاد ضوئي حينما رصد في شكل متتابع او متواز اجواء النادي الليلي والسجن والشارع بل، وكأنه اراد ان يقول، ان عالم النوادي الليلية نصف المعتمة قد طبع اجواء مدينة شيكاغو العشرينات. * كاتب روائي وتلفزيوني سوري.