في المرحلة الأولى كان هناك صوت الشاعر المنادي في براءة مطلقة، على الحمل قائلاً له: "أيها الحمل الصغير، من الذي خلقك؟ هل تعرف من الذي خلقك؟ الذي منحك الحياة، ودعاك لترعى الى جوار الجدول وفوق المرج الذي كساك، أرق الأثواب من الصوف المتألق، الذي وهبك صوتاً رخيماً يبعث النشوة في كل الأودية؟". وفي المرحلة التالية سيصير هناك صوت الشاعر المنادي وقد صار ذا تجربة وخبرة، على النمر: "أيها النمر، أيها النمر البراق الخاطف البرق في غابة الليل، أي عين، أي يد خالدة، سمحت لك بأن تكون كل هذه المقاييس المتناسبة؟ في أية أعماق بعيدة، في أية سماوات كانت تلمع نار بريق عينيك... ترى هل إن الذي خلق الحمل كان هو من خلقك؟". الفاصل بين المرحلتين والفقرتين خمس سنوات. وكاتب هذه الأشعار أراد أن يوحي لنا، كما يبدو، انه انتقل، كشاعر متأمل للمخلوقات والطبيعة، خلال تلك السنوات الخمس من متأمل بريء الى متأمل ذي خبرة. ومن هنا حيث جمع في عمل واحد قصائده المؤلفة أصلاً من مجموعتين، كان من الطبيعي للعمل الموحد ان يحمل عنواناً جامعاً هو "أغاني البراءة والتجربة". والحال ان ذلك لم يكن الجمع "الهجين" الوحيد بين عالمين يبدوان للوهلة الأولى لا يجتمعان، بل ان الشاعر جمع أيضاً هنا، أشعاره الى رسوم وضعها، كما جمع فن الرسم الى ابتكار ابتدعه لفن طباعة اللوحات بالألوان في الكتب. وعلى هذا النحو ولد عند نهاية القرن الثامن عشر، ذلك العمل الفذ والاستثنائي الذي أبدعه الانكليزي ويليام بليك، والذي سيحاكيه - ويسرق منه كثر بعده - لعل أشهرهم بالنسبة إلينا كاتبنا اللبناني جبران خليل جبران الذي من الواضح أنه "يدين" لبليك بالكثير، شعراً ورسماً على السواء. لكن هذا ليس موضوعنا هنا. موضوعنا هو مجموعة "أغاني البراءة والتجربة" التي حققت جديداً في الشعر، كما في الرسم الانكليزيين، جاعلة من الكلمة والرسم فنين لا ينفصمان. ونعرف طبعاً أن بليك مارس الفنين معاً، طوال حياته. وهو لم يكتف بأن يرسم لوحات تعبر عن كتاباته، بل انه رسم كذلك لوحات للكثير من المواضيع والكتب الأخرى، ومن بينها "حكايات كانتربري" و"الكوميديا الإلهية" لدانتي. وهو بُجّل كرسام بقدر ما بُجّل كشاعر. وهو كشاعر عرف بصفته واحداً من أساطين التيار الرومنطيقي في الشعر الإنكليزي، الى جانب كولردج وورد زورث واللورد بايرون، بل ان ثمة من يرى أن بليك كان متميزاً عن هؤلاء جميعاً، في العلاقة مع الطبيعة ومخلوقاتها على الأقل. والحال ان "أغاني البراءة والتجربة" تعطي صدقية لأصحاب هذا الرأي. وكان بليك في الثانية والثلاثين من عمره حين نشر المجموعة الأولى من هذه القصائد، وهي المتعلقة بالبراءة، وهو قبل ذلك كان نشر مجموعة شعرية واحدة بعنوان "صور شعرية". وكان ذلك عام 1783. وقد أدهشت "صور شعرية" هذه جمهور لندن، ليس بسبب قيمتها الشعرية والفنية بل لأن الأوساط الأدبية كانت تعرف ان بليك عصامي لم يدرس الأدب في أية مدرسة، بل بدأ حياته مساعد رسام، ثم بدأ يخوض الشعر تدريجاً. ولئن كان "صور شعرية" استقبل كظاهرة، فإن "أغاني البراءة" استقبل كعمل ناضح، وأيضاً كعمل يجمع الرسم الى الشعر، ذلك أن بليك رسم قصائده لوحات متميزة، وجمع النوعين في كتاب واحد طبعه بنفسه، مستخدماً اسلوب تلوين كان هو من اخترعه أصلاً. وهو نفسه ما عاد وحققه بالنسبة الى "أغاني التجربة". والجمهور النخبوي الذي اطلع باكراً على العمل الأول أدرك بسرعة انه امام شعر - ورسم - يجمع بين النزعة الصوفية والنزعة الرومنطيقية في بوتقة واحدة. وكان موضوع العمل ككل "الحب والشفقة اللذين يمتزجان في كل شيء" بحسب الناقد العراقي عبدالواحد لؤلؤة الذي ترجم وزميل له بعض قصائد المجموعة في كتابهما "من الشعر الرومنطيقي الانكليزي". ولؤلؤة نفسه يضيف ان "أغاني الغيرة" إذ نشرها بليك في عام 1794 أتت متناقضة في شكل واضح مع "أغاني البراءة". إذ حل محل الأمل الذي كان يشع في أعمال بليك الأولى، احساس بالظلمة والرهبة وقوة الشر. ويضيف الناقد العربي: "اننا هنا، ومرة أخرى، نجد احتجاجاً على القوانين التي تحدد وتنظم، كما نجد تعظيماً لروح الحب" على رغم كل شيء. والحال ان ما يمكننا أن نضيفه الى هذا الكلام هنا هو أن اشعار بليك الغنائية هذه، سواء أكانت نابعة من براءة أو غائصة في الخبرة، فإنها في الأحوال كافة تبدو نتاج فنان مفعم بالسرور وقوة على الفرح وتمسك بالبراءة، إذ انه حتى حين يكتب عن "الخبرة"، من منظور غاضب ومرير، فإننا نجد كتابته صارخة بالحنين الى فرح يخشى الشاعر أن يكون ذهب من دون عودة... ما يجعل صورة ويليام بليك على الدوام صورة الطفل الذي يرفض ان يكبر ويظل يعبر عن ذلك حتى حين يجد نفسه أمام زمن يتغير ويحاول أن يغيره معه. ويليام بليك ولد في لندن عام 1757 وسيموت فيها عام 1827. وهو، إذ رفض دخول المدرسة منذ صباه، أُلحق بمحترف رسام نقاش تعلم لديه الرسم في وقت كان ينكب على القراءة، وما إن تجاوز الخامسة والعشرين حتى بدأ يكتب الشعر الى جانب اهتمامه بالرسم. وهو أصدر خلال حياته الطويلة الكثير من المجموعات الشعرية، كما رسم الكثير. ومن أبرز مجموعاته الى ما ذكرنا: "ملتون" و"أورشليم" كقصائد و"الثورة الفرنسية" و"أميركا"...