Michele Manceaux. Histoire dun Adjectif. قصة نعت. Stock, Paris. 2003. 300 pages. كان الكاتب الروسي اليهودي اسحق بابل 1894-1941، الذي عاصر الثورة البلشفية، قال:"لو كان لي أن اكتب سيرتي الذاتية لجعلت عنوانها: قصة نعت". هذا بالضبط ما تفعله ميشيل مانصو في هذه السيرة الذاتية التي تكتبها ولم يعد أمامها من "مستقبل" آخر سوى انتظار الموت، بعد أن أصدرت خلال الأربعين سنة الفائتة أكثر من عشرين رواية وعملاً أدبياً. لمَ "قصة نعت"؟ لأن النعت قد يختصر كل الهوية عندما يكون المرء، كما في حال ميشيل مانصو، يهودياً تأخر طويلاً في اكتشاف يهوديته وفي إعلانها. "أنا الآن يهودية". هذا ما كانت أعلنته صاحبة "النعت" على صفحات جريدة "لوموند" الفرنسية في مقال نشرته في 31 آب اغسطس 2001 وتسبب في انهيال عدد هائل من الردود ومن… الشتائم والتهديدات. لماذا؟ لأن هذه "اليهودية" لم تجهر بيهوديتها، بعد طول سكوت عنها، إلا لتجهر في الوقت نفسه بإدانتها لاضطهاد إسرائيل للفلسطينيين، من دون أن يكون في مستطاع أحد، من أنصار الدولة العبرية في الأوساط الثقافية والإعلامية الفرنسية، أن يرميها بتهمة اللاسامية. وبالفعل، كانت صاحبة "النعت" قد ولدت في أواسط الثلاثينات الماضية من أب نصف كاثوليكي ونصف بروتستانتي ومن أم يهودية أشكنازية. لكن ظروف الاجتياح النازي لفرنسا حملت الأم على اخفاء هويتها وهوية ابنتها، وأوهمتها وأوهمت جوارها في الريف الفرنسي الجنوبي بأنها "مسيحية"، وأخضعتها لكل الطقوس الدينية الكاثوليكية من معمودية ومناولة أولى وتعليم ديني. لكن صاحبة "النعت" التي كفّت على هذا النحو عن أن تكون "يهودية" لم تصر قط "مسيحية". فقد بقيت على امتداد السنوات التي كتبت فيها بين 1962 و2001 بلا هوية دينية. وكان انتماؤها الوحيد إلى حركة الطلاب اليساريين في 1968، ثم إلى حركات التحرر الوطني والنسوي في افريقيا وفي أميركا اللاتينية، وإلى حركة تحرر السود في الولاياتالمتحدة. وكانت على امتداد تلك السنوات وكأنها تهرب من ذاتها ومن هويتها القلقة ومن ميولها إلى الانتحار والانهيار النفسي. ولم تحرك فيها لا حرب 1967 ولا حرب 1973 ساكناً. وحتى عندما زارت إسرائيل عام 1978، فإن القضية الفلسطينية ظلت غائبة عن وعيها، كما ظل غائباً معها الشعور بالتضامن مع إسرائيل. وكان عليها أن تنتظر حتى 1997 لتكتشف أن الالتزام الوحيد الذي يمكن أن يعطي معنى لحياتها ويحذف علامة الاستفهام حول هويتها هو الالتزام بتسوية سياسية تحفظ للإسرائيليين حقهم في الوجود الآمن وللفلسطينيين حقهم في دولة مستقلة. وقد جاء اكتشافها هذا عبر صداقتها التي شاءت الصدفة أن تنعقد بينها وبين ليلى شهيد، ممثلة "السلطة الفلسطينية" في فرنسا. فقد التقتها في 1997 لتجري معها مقابلة لحساب إحدى الأسبوعيات الفرنسية. ومن خلال التقائها بهذه المرأة أدركت أنها - على حد تعبيرها - "التقت بشعب". وفجأة بدا لها وكأن "البقعة السوداء" التي تغطي خريطة وعيها قد تلونت وأضاءت. المقابلة التي كان يفترض بها أن تدوم ساعة استغرقت نصف يوم بتمامه. وفي نهايتها كف الفلسطينيون في وعي ميشيل مانصو عن أن يكونوا كلمة مجردة ليغدوا شعباً من لحم ودم، لا تقبل عذاباتهم، المستمرة منذ أكثر من نصف قرن، مقارنة إلا مع عذابات يهود الشتات. فالفلسطينيون قد جرى تصويرهم - تقول ليلى شهيد - وكأنهم كانوا ولا يزالون جماعات من البدو الرحل. هذه الصورة "الاستشراقية" تبناها رواد الدولة العبرية ليعطوا المصداقية للشعار الصهيوني القائل: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". وهكذا فإن أرشيفات أجهزة إعلام الدولة العبرية لم تحتفظ إلا بصور البدو من الفلسطينيين الذين جرى ترحيلهم عام 1948، "مع جِمالهم"، نحو الشمال. بينما أسدل جدار من الصمت ومن التعمية على صور بورجوازية المدن الفلسطينية، في حيفا ويافا ونابلس والقدس، وحُذف من التاريخ دور المثقفين الفلسطينيين الرواد في الانفتاح على العلم والثقافة والحداثة الغربية. ففلسطينياً كان أول من ترجم إلى العربية مؤلفات مونتسكيو وفولتير وفيكتور هيغو، وفلسطينياً كان أول قنصل عثماني يتسجل في جامعة السوربون عام 1901. ولئن تكن ليلى شهيد توصف من قبل أجهزة الإعلام الفرنسية بأنها "سيدة عصرية"، فإن ليلى شهيد، المولودة عام 1949، تحب أن تذكّر بأن جدتها كانت ممن شاركن عام 1920 في التظاهرات الأولى لاتحاد النساء الفلسطينيات من أجل قيام دولة فلسطينية مستقلة عن الانتداب الانكليزي. كما أن والدة ليلى شهيد، التي كانت تنتمي إلى أسرة مسلمة وجيهة، درست لدى الكويكرز الأميركيين، مثلما درس والدها لدى اليسوعيين الفرنسيين. ومن قبلهما كان جداها يتقنان الانكليزية والفرنسية، ويقطنان في حي المغاربة الذي كان أول حي ينسفه الإسرائيليون ليخلى مكانه لساحة حائط المبكى. ولم يكن جدها أحداً آخر سوى جمال الحسيني الذي كان في حينه ممثل فلسطين في منظمة الأممالمتحدة. وقد رفض قرار التقسم لعام 1947 ليس فقط لأنه اعطى اليهود 56 في المئة من أراضي فلسطين، في حين انهم ما كانوا يملكون سوى 6 في المئة منها. بل لأنه كان يستحيل عليه أن يقبل بفكرة دولة يهودية خالصة، وهو العلماني النزعة. وقد كان في رده على مشروع التقسيم سابقاً لعصره. فقد قال: "لنُقم دولة ديموقراطية يتعايش فيها اليهود والمسلمون والنصارى ويحترم كل منهم ديانة الآخر في إطار دولة علمانية". ولئن اكتشفت من خلال شخص ليلى شهيد وجود قضية فلسطينية وشعب فلسطيني، فقد اكتشفت، من خلال نص، الموقف الذي يمكن أن تقفه "يهودية" مثلها من إسرائيل كدولة "يهودية". والنص هو للكاتبة الفرنسية الراحلة قبل الأوان آنيا فرانكوس في كتابها "الفلسطينيون" الصادر عام 1969. فهذه المثقفة الفرنسية اليهودية الأصل- التي يقال انها كانت عشيقة فيديل كاسترو - كانت قد كرست قلمها للدفاع عن قضايا المستعمَرين ضد مستعِمريهم في الجزائر وافريقيا الجنوبية والشرق الأوسط. ولئن يكن معظم أفراد أسرتها قد ذهبوا ضحية المشواة النازية المحرقة، فإنها لم تقتنع قط بضرورة وجود دولة يهودية. أولاً، لأن اليهودية كانت في نظرها ديناً، لا قومية"، وثانياً، لأنها كانت تؤمن بأن دولة إسرائيل من شأنها، لا أن تحل مشاكل اليهود في العالم، بل ان تضيف إلى مشاكلهم مشكلة، وربما مصيبة. فالصهيونية هي، في التحليل الأخير، نزعة قومية اسطورية تحولت مع قيام دولة إسرائيل إلى نزعة كلبية سينيكية سياسية. ومثلها مثل اللاسامية التي ارادت نفسها رداً عليها، فإنهما كلتيهما لا تعدوان أن تكونا وجهين لمرض واحد، هو مرض التمييز العنصري الذي ما يزال يلتصق بجلد الحضارة الغربية، منذ اختراع اسطورة الرجل الأبيض، التصاق سرطان خبيث غير قابل للاستئصال. وبعد ليلى شهيد الفلسطينية، وآنيا فرانكوس الفرنسية، فإن امرأة ثالثة لعبت دورها في احضار القضية الفلسطينية إلى وعي مؤلفة "قصة نعت" هي الإسرائيلية نوريت بيليد إلكنعان، ابنة الجنرال ماتي بيليد الذي كان من الدعاة المبكرين للحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسس أول لجنة للسلام بين إسرائيل وفلسطين. ففي 4 أيلول سبتمبر 1997 قُتلت ابنتها سمادار بيلي في عملية نفذها انتحاريون فلسطينيون في شارع بن يهودا في قلب القدس. كانت في زهرة العمر. وككل أم، فإن ألم نوريت إلكنعان كان لا يطاق. ولكن بدلاً من أن تصرخ بألمها، فقد صرخت بغضبها، وهذا في حضور بنيامين نتانياهو نفسه في حفل تأبين ابنتها. فقد كان نتانياهو، قبل أن يصير رئيساً للوزارة، من زملائها في المدرسة الثانوية. وأمام الصحافة وعدسات التلفزيون لم تتردد في أن تصرخ في وجهه بغضبها. حمّلته مسؤولية موت ابنتها، وبالحرف الواحد قالت: "إن إسرائيل تربّي الإرهابيين. وموت ابنتي هو النتيجة المباشرة للإذلال اللاحق بالفلسطينيين. فنحن الذين اخترعنا الانتحاريين. وهم يقتلون أنفسهم لأننا جعلنا حياتهم عديمة القيمة في نظر أنفسهم". مؤلفة "قصة نعت" اختارت هي الأخرى أن تجهر بيهوديتها لكي تصرخ بغضبها. فما دامت "يهودية"، فمن حقها إذاً أن تستخدم سلاح الكلمة لتطالب بمنع إسرائيل من أن تكون وصمة عار في جبين اليهود. فإسرائيل هي اليوم الدولة الأكثر قتلاً للأطفال في العالم. فبموجب تقرير منظمة العفو الدولية، فإن أكثر من 400 طفل قُتلوا في إسرائيل منذ اندلاع الانتفاضة الثانية إلى نهاية عام 2002. ثلاثمئة وثلاثون طفلاً فلسطينياً قتلوا برصاص الجنود الإسرائيليين، وثمانون طفلاً إسرائيلياً قتلوا في عمليات نفذها الانتحاريون الفلسطينيون. وهذه المقتلة الدائمة للأطفال هي سبب اضافي من الأسباب التي حملت مؤلفة "قصة نعت" - وهي أم لطفلين - على أن تعاود اكتشاف نعتها كيهودية. فمن الداخل اليهودي تملك حرية أكبر في أن تقول "لا" لسياسة إسرائيل، و"لا" لوجود "قاتل" هو شارون على رأس الفريق الذي يدير اليوم سياسة إسرائيل. و"قصة نعت" هي في الواقع قصة هذه ال"لا".