الحلقة التي قدمها يسري فودة أخيراً من برنامجه «آخر كلام» على شاشة «اون تي في» عن الشاعر المصري أمل دنقل، تظل الحلقةَ الأهم والأكثر تأثيراً من بين عشرات الحلقات التلفزيونية التي أُعدت عن الشاعر الراحل، لمجموعة أسباب، أهمها أن الاحتفاء بأمل دنقل في ذكرى رحيله ال 28 كان مصدرَه هذه المرة برنامج تلفزيوني يحظى بنسبة مشاهدة ربما هي الأعلى من بين برامج «التوك شو» المصرية بعد ثورة 25 يناير، وبالتالي تحررت فكرة الاحتفال ذاتها من فضاء البرامج المتخصصة التي يتعاطى معها جمهور معروف باهتماماته الثقافية، وأخذت حلقة «آخر كلام» كاتب قصيدة «لا تُصالح» إلى فضاء أكثر اتساعاً. فضاء يمكنه التجاوب مع دنقل، الذي ظل شعره متهماً من شعراء حداثيين ب «النفَس الشعبوي»، لكنه ظل مغيَّباً عن الإعلام على رغم ذلك، وهي مفارقةٌ مثلَتْ عمودَ ارتكاز في البرنامج، الذي لعب على نبرة «الرفض» التي اتسم بها شعر أمل دنقل، إذ استُغل شعره بالمعنى الإيجابي، باستدعاء صوته «الثوري»، خصوصاً عبر قصيدته الشهيرة «الكعكة الحجرية»، التي كتبها تفاعلاً مع انتفاضة الطلاب في 1972 ووقفتهم في «ميدان التحرير» في قلب القاهرة، وهي الوقفة التي تكررت على نطاق أكثر اتساعاً خلال ثورة 25 يناير. واللافت كذلك الإصرار على استدعاء قصيدته «لا تُصالح» ونزعها من سياقها الفني، لتبرز في الحلقة كصوت مقاوم للأصوات الداعية الى التصالح مع رموز الفساد. لكن أهم ما في الحلقة، هو اشتغالها على مفارقة الشهرة بالمعنى الجماهيري، والأثر بالمعنى الفني، إذ كشف استطلاعُ رأيِ شرائحَ متعددةٍ من الناس في الشارع، عن جهل غالبيتهم بهوية دنقل وقصائده. في مقابل هذا الجهل، حفلت الحلقة بشهادات حول دنقل، من نقّاد وشعراء، مثل جابر عصفور ومحمد بدوي وأحمد عبد المعطي حجازي وحلمي سالم، إضافة إلى شقيقه أنس دنقل وأرملته عبلة الرويني، وهي شهادات ركزت، بالإضافة الى عمق شعر دنقل الانساني، على القيمة الفنية له، وقدرته على مقاومة الزمن، كمن يتمثل سوناتا شكسبير التي تحدث فيها عن «أثر الشاعر»، اذ تمنحه القصيدة دائماً «الحياة الأخرى». كذلك تحررت الحلقة من الطابع التقليدي في هذا النوع من البرامج، إذ لم تتورط في فضاء «التوثيق» على رغم استعمالها الذكي لمواد أرشيفية نادرة للشاعر في شهوره الأخيرة، وهي لقطات اعتمدت بشكل رئيس على فيلم «الغرفة 8» للمخرجة عطيات الأبنودي، إضافة إلى الأرشيف الشخصي للشاعر فاروق شوشة الذي كان المتحدث الرئيسي في البرنامج، ونجح بحضوره الجماهيري في قراءة مختارات من شعر دنقل بمشاركة يسري فودة مقدم البرنامج، الذي استدعى هو الآخر ماضيه الذي لا يعرفه أحد، فهو بدأ حياته شاعراً، وربما لم يعد يكتب الشعر الآن، لكنه لا يزال يمتلك القدرة على إنصاف الشعر والشعراء، وهو أمر يستحق أكثر من تحية.