يطرح جلال أمين الحراك الاجتماعي للجماهير المصرية في نصف قرن مضى 1950-2000. ويستعرض التحولات الاجتماعية التي طرأت على حياة هذه الجماهير التي ازدادت اكثر من ضعفين في ظل حكومة الثورة 1952. ويرى في كتابه "عصر الجماهير الغفيرة" دار الشروق - القاهرة 2003 ان الحراك الاجتماعي لجماهير مصر الغفيرة أدّى الى إفرازات سلبية وايجابية في وسائل الإعلام وفي الكماليات الوافدة كما في السياحة والثقافة والاقتصاد. فهو يعالج ما على سطح المجتمع، محللاً التحولات النفسية - الاقتصادية التي تسوّقها المؤسسات الأميركية من خلال قنوات الاتصال المتنوعة في المجتمع المصري. حدد المؤلف مبادئ الثورة المصرية بستة: القضاء على الاستعمار وأعوانه، القضاء على الإقطاع، القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم، إقامة جيش وطني قوي، إقامة عدالة اجتماعية، إقامة ديموقراطية سليمة. واللافت انه جعل مبادئ الثورة ونجاحها في سياق تطور المجتمع الأميركي ورغبة مؤسساته لكي يصبح مناخ السوق في العالم مواتياً لرغباته واستراتيجياته التسويقية التي بدأ التخطيط لها في منتصف القرن الماضي. يسوّغ ذلك من دون ان يتجاهل دور الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية في زيادة تفتح الوعي الثوري عند كتل بشرية ضخمة تمتد من الصين شرقاً حتى كوبا غرباً. وهو بذلك يطرح نظرية الكم والنوع، والتراكم الكمي الذي يفرز بطريقة أو بأخرى في مسار تطوره النوعي الذي يشكل الريادة في قيادة المجتمع. لكن هناك مشكلة للريادة في مجتمع تفوق نسبة الكم على النوع، فيصبح هذا الكم الجماهيري الجماهير الغفيرة عبئاً ثقيلاً ينوء بحمله الإفراز النوعي المحدود. ولا بدّ من ان يكون الحل في تطوير الشرائح الاجتماعية أفقياً، وتسريع أقنية التنمية الاقتصادية والثقافية في قنواتها لكي يتوازى نسبياً الإفراز النوعي والإفراز الكمي. ويقدم الكاتب في سياق تحليله أمثلة متنوعة على ذلك. ففي مجال الإعلام يشرح كيفية تطور الصحافة في بلد يعاني 80 في المئة من سكانه الأمية. لكن الاحتكاك بالسوق العالمي جعل من الصحافة تتطور في سرعة مذهلة حيث أصبحت تراعي ذوق الجماهير الغفيرة الصاعدة. فالصحافة في مصر تطورت في السنوات الثلاثين الأخيرة أكثر مما تطورت الصحافة في أوروبا وأميركا في ثلاثة قرون. وفي مناقشته للأقنية المتلفزة يقارن بين التلفزيون الوطني في حدود الدولة والأمة، وبين المعولم الذي أدّى الى اتساع مجال الرؤية والتأثير، ما جعله مصدر الضرر وصنيع القهر. والفرق بينهما كالفرق بين الأثر على نفسية الفرد المشترك في مسيرة تتكوّن من خمسة أشخاص، وذلك الذي يترتب على الاشتراك في مسيرة يقوم بها عشرة آلاف شخص. في المسيرة الأولى يكون الفرد قادراً على اتخاذ القرار الحر، اما في الثانية فيرتبط بمصير القطيع العام الجماهير الغفيرة. وفي مسار تحليله لتطور الجماهير الغفيرة في مصر يطرح "المسألة" الثقافية التي ترجحت بين مسارات عدة: المسار البورجوازي في مرحلة ما قبل الثورة 1952، ومسار البورجوازية الصغيرة الطبقة الوسطى وصعودها في عهد الثورة نتيجة للإنجازات الكبرى للحكومات المتعاقبة، والمسار السائد اليوم الذي يترجح بين صعود الطبقة الوسطى وهبوطها في المجتمع المصري. ويرى ان التطور الذي حصل في بنية المجتمع الثقافية أدى الى تحوّل كبير في مسار العملية الثقافية وتحولها الى ثقافة تخدم مصالح تجارية، تمثلها شركات أجنبية ومؤسسات دولية، اضافة الى مؤسسات وشركات مصرية. وبذلك تسير الثقافة في مصر في اتجاهين: اتجاه يخدم مصالح السوق السائدة، واتجاه يبحث عن ثقافة رفيعة تستطيع الصمود في وجه التيار الكاسح للثقافة الرديئة. لكنه اذ ينتقد عملية التطبيع مع اسرائيل، ينتقد ايضاً الأعمال الأدبية الغامضة التي يسميها أصحابها "مدرسة ما بعد الحداثة". * كاتب لبناني.