حاولت الشعوب العربية أن تزحف نحو الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، احتاجت إلى محاولات ما لبثت أن انكسرت، منذ بدء النهضة ونشاط النقد الفكري والديني والحراك السياسي على أوجه، الدوران حول "النهضة" كان هاجساً للحركة الفكرية العربية منذ قرنين، لكن الواقع لم يزدد إلا سوءاً. صارت حال المجتمعات العربية كما وصفها ابن خلدون:" وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة"، خمول استمر عقوداً طويلة، حتى يئس الناس من حركة الشعوب، وأطلقوا عليها وصف "الشعوب التي لا تثور". يئس من الشرقيين حتى كارل ماركس بقوله: "يبقى المجتمع المشرقي شديد المقاومة للتغيير؛ ينزع إلى الركود؛ وهذا لا يعزى فقط إلى التحكم الاستبدادي الجامد لجهاز الحكم الممركز، بل وإلى طابع الاكتفاء الذاتي داخلياً لمشاعة القرية". المجتمعات العربية اليوم تختار مصيراً مختلفاً، عبر التطور والتغيير الذي تأخذه، بل أعادت المجتمعات إلى "الثورة" براءتها الأصلية؛ بحيث صارت الثورة مفهوماً شعبياً لاتدخله الأيديولوجيا. وحينما بدأ الزحف التونسي الشعبي لم يكن الشعب يبحث عن مطالب تنتصر لتيارٍ على تيارٍ آخر، بل عادت الثورة الشعبية المستندة على أساسها المدني. ربما تعيش تونس أو مصر فوضى الثورة لكن الثورة تنظّم نفسها. الثورات الشعبية التي شهدتها البشرية، لم تكن بالضرورة استجابةً لدعوة، وإنما جاءت نتيجة غليان اجتماعي غامض، ماء الثورة يغلي على نيران من الضرورات؛ قد تكون تلك الضرورات فكرية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية ولكن النار الأشد اشتعالاً هي "نار الاقتصاد" فهي المحرك الرئيسي للثورات؛ جلّ الثورات بدأت تزحف لا من الكنائس أو المساجد بل من الأفران، والأفواه الساخطة هي أفواه جائعة. قراءة ما يجري في مصر من بوابة التحليل الاجتماعي باتت ضرورةً ملحة، لأنها حالة خارج السيطرة، لم تكن تلك الهبّة استجابةً لدعوة حزب بل نضجت بالغليان. الإخوان المسلمون في الثورة مجرد ضيوف ومشاركين وليسوا قادة، ولو كانت الثورة المصرية بدأت من دعوة الإخوان لكانوا أجّجوها من قبل ولم يضطروا إلى المواجهة الطويلة مع الحكومة المصرية طوال العقود الماضية. الإخوان في الثورة المصرية ليسوا سوى جوعى سياسيين يريدون الشبع من كعكة الشعب؛ اختلف الإخوان مع النظام المصري منذ ثورة يوليو 1952. منذ تلك الثورة والإخوان يزورون التجمعات تسللاً لا قيادةً. صحيح أن إيران تود أن تقذف بالإخوان لقطف ثمار الثورة لكن هذا ممتنع حالياً بسبب الطبيعة المدنية للتحرك الاجتماعي المصري، لهذا أتفق مع الفيزيائي المصري: أحمد زويل في رأيه بأن المتظاهرين "متحررون من الانتماء الأيديولوجي". زلزال التحرك الحالي هو جرس إنذار للإصلاح كما عبر وزير الخارجية سعود الفيصل في حديثه "لرويترز" مطالباً الحكّام بالإنصات لمطالب الشعوب. الهزة التي ضربت تونس ممتدةً إلى مصر ليست منفصلةً؛ بل متصلة؛ كلها أتت بعد "ثورة تقنية" متعددة الفروع، منذ تسريبات "ويكيليكس" إلى مجتمع "تويتر، فيسبوك، يوتيوب". كانت الثورات في السابق تتحرك عبر الأفكار والأيديولوجيات، وهي اليوم تتحرك عبر محيطات التقنية؛ عبر قوارب الثائرين من خلال ذبذبات الانترنت الساحرة. بات كل إنسان يحمل بيده "جوالاً" عبارة عن قناة فضائية متنقلة، الصور التي تحملها أجهزة الجماهير المحمولة صارت مصدر القنوات الفضائية بعد أن كانت الفضائيات هي مصدر الجماهير؛ انقلبت الآية! خلال القرون التي تجمدت بها المجتمعات العربية هادئةً راكنة؛ كانت التيارات الديمقراطية تعوّل على مؤسسات المجتمع المدني في التغيير، حتى إن غوستاف لوبون في كتابه: "سيكيولوجية الجماهير" كتب: "إن المؤسسات تؤثر على روح الجماهير لأنها تولد انتفاضات"، لكن المؤسسات لم تحرك المجتمعات، بينما لم يحرك المجتمعات سوى "الإنترنت" بكل فروعه، وبكل صرعاته المتجددة. استطاع أن يلغي الحدود والمسافات وأن يطلق الشعوب ليكون التحرك في العالم الواقعي نتيجة للتحرك في الواقع الافتراضي وليس العكس؛ تلك أحد ملامح التحولات الكونية والعالمية. فهل نعي مستوى تغير العالم؟!