عندما نظمنا في نهاية سنة 1991 مؤتمراً عالمياً للدراسات الموريسكية حول: الذكرى الخمسمئة لسقوط غرناطة 1492-1992، علمنا ان ملك اسبانيا خوان كارلوس سيلقي يوم 31 آذار مارس 1992 خطاباً لمناسبة المئوية الخامسة لطرد اليهود من اسبانيا 31 آذار 1492 - 31 آذار 1992 ليقوم يومئذ بالاعتذار لهم رسمياً ويصدر قانوناً ذا صبغة رمزية لإبطال الأمر بالطرد. وبتاريخ 2 كانون الأول ديسمبر 1991 وجهنا نداء الى جلالة ملك اسبانيا "من اجل دعم العلاقات العربية - الاسبانية وهي جيدة، اعتباراً للدور المتميز لمشاركة الأندلس في الحضارة الكونية ولنسيان هذه المأساة من الذاكرة العربية - الإسلامية والتي جرت منذ خمسمئة سنة". وقد وجهنا إذاً هذا النداء من أجل تبني موقف يترجم عن اعتذار حضاري لدى العالم العربي الإسلامي. وبعد بضعة أشهر من ذلك وتحديداً يوم 31 آذار 1992، أوردت شبكة CNN ووكالات الأنباء العالمية، ان ملك اسبانيا تحوّل الى أكبر كنيس يهودي في مدريد واضعاً على رأسه Kippa وطلب الصفح من اليهود على طردهم ومنح الجنسية الاسبانية الى اليهود الشرقيين الذين التجأوا الى الامبراطورية العثمانية، خصوصاً اسطنبول، حيث ما زالوا يتكلمون الى اليوم اللغة القشتالية. إن هذا الاعتذار يدخل في جدلية الاعتراف بالظلم الذي لحق بيهود اسبانيا، وهو ما نقدره حق قدره ونعتبره عملاً حضارياً. وبالفعل، ففي 4 تشرين الثاني نوفمبر 1992 ألقى الملك خطاباً، غير ان الملك لم يقل شيئاً في خصوص المأساة الموريسكية، بينما كنا ننتظر منه عملاً حضارياً. وقد كتبنا آنذاك: "إن خطاب جلالة الملك أساسي بالنسبة الى بناء علاقات مثمرة في كل الميادين، غير اننا نتمنى ان يشير الى هذه الفترة الحساسة في تاريخ العلاقات العربية - الاسبانية، وهي الفترة التي قامت فيها محاكم التفتيش بتعذيب الموريسكيين وتسببت في مأساتهم المفجعة والأكثر قساوة في تاريخ الانسانية خلال عصر النهضة. إن مصلحة الدولة العليا كما قال جلالة الملك كانت فوق كل اعتبارات العدالة نفسها". ذلك هو موقف رجال الدولة الاسبان في خصوص هذا الملف، وكان القرار الذي اتخذوه ألا يقدِّموا ابداً اي اعتذار، وهو ما يفسر صمت اسبانيا ازاء هذا الأمر، على رغم تسجيل عدد من الاعتذارات الحضارية خلال السنوات الأخيرة. من ذلك ان رئيس جمهورية البرتغال قدم رسمياً اعتذاراً للعالم العربي - الإسلامي على المأساة التي عاشها الموريكسيون في بلده! والبابا نفسه قدم اعتذاراته على المظالم التي ارتكبها الكاثوليك في العالم. كما اعتذرت اليابان ايضاً لدى الصين وبقية الدول الآسيوية على المجازر التي ارتكبها جنودها خلال الحرب العالمية الثانية. وأخيراً، فإن رئيس مجلس الوزراء الايطالي اعتذر باسم ايطاليا لدى ليبيا على الاعمال السيئة للاستعمار. وهناك أمثلة أخرى من هذه المواقف الحضارية. ان رفض اسبانيا تقديم اعتذارها عن المأساة الموريسكية لا يمكن قبوله، والسبب في ذلك هو الصمت غير المبرر الذي لازمه العالم الاسلامي حيث لم يتبن موقفاً موحداً ازاء هذا الملف، لمطالبة اسبانيا بتقديم اعتذار حضاري. فأي جحود هذا! والأغرب والأخطر ان اسبانيا اتخذت اخيراً قراراً آخر رمزياً في أعين اسبانيا واليهود، ولكن ذا نتائج أخطر في نظرنا اليوم، حيث ان الصحيفة الاسبانية تحدثت في نشرتها ليوم 15 تموز يوليو 2000 عن قرار اسبانيا المساهمة بمليون ونصف المليون دولار أميركي في صندوق عالمي مخصص للتعويض لمن بقي على قيد الحياة بعد المحرقة. وأن الجانب الأوفر من هذا المبلغ سيخصص بحسب الصحيفة، لأحفاد اليهود الشرقيين الذين طردوا سنة 1492 من اسبانيا خلال فترة الاسترداد والذين استقروا في تونس واليونان وبلغاريا ويوغوسلافيا السابقة ومركز الدولة العثمانية. وليس لنا الا ان نأسف للغياب الكلي لأي وعي عربي - إسلامي ازاء هذه المسألة. كما نأسف لصمت اسبانيا لمطلبنا الخاص، ليس من أجل دفع تعويض لنصف مليون شخص طردوا بصفة غير شرعية وسلبوا ظلماً كل ثرواتهم وقضي عليهم في ظروف مأسوية، وإنما الاعتذار للعالم العربي - الإسلامي على هذه المأساة التي حصلت للموريسكيين الأندلسيين المساكين. متى سيستفيق العالم العربي - الإسلامي ليطلب من اسبانيا هذا الحق التاريخي، ولن نهدأ للمطالبة به في المستقبل الى ان تستجيب السلطات الاسبانية العليا الى هذا المطلب العادل وتقوم بالاعتذار علناً! في هذا الاطار، أنوه بالمبادرة الذكية والفريدة لمسؤول عربي هو الدكتور الشيخ سلطان القاسمي، حاكم الشارقة وعضو المجلس الأعلى لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، الذي كتب مسرحية عن سقوط غرناطة واختار لها عنواناً معبراً "القضية"، هذه المسرحية التي كتبت بأسلوب بليغ ومؤثر، شكلت رسالة تاريخية تتجاوز قيمتها الشعارات الخاوية حول الأندلس والتي تروج في العالم العربي - الإسلامي. إن الدكتور الشيخ القاسمي صوَّر هذه المأساة ليعمق الوعي التاريخي للعرب - المسلمين ازاء مأساة الموريسكيين. ألا يحق لنا مطالبة اسبانيا بالاعتذار عن هذه المأساة؟ من المؤسف ان يقع نسيان تاريخ الأندلس والمأساة الموريسكية الى اليوم، فمتى يستيقظ الضمير العربي - الإسلامي لمطالبة اسبانيا بالاعتذار رسمياً عما فعلته الدولة والكنيسة ومحاكم التفتيش في القرن السادس عشر، لشعب بائس ومظلوم من السلطات السياسية والدينية، بسبب دفاعه المستميت عن هويته وحضارته وتراثه ودينه وأندلسه الحبيبة التي أعطت الكثير لأوروبا وللإنسانية جمعاء؟ * مؤرخ تونسي.