يواصل الفنان العراقي جبر علوان عرض لوحاته في عواصم عدة وآخر معارضه في غاليري M.ART في فيينا. والرؤية الفنية عند الفنان جبر علوان تبني نفسها انطلاقاً من شعور عاطفي قلق، وهيمنة حسية تبحث عن تعبير آن مباشر، يتمثل بلغة الشكل ذات المنحى الواقعي التعبيري، الذي تجسده الوانه الاصطلاحية اللاواقعية والمثيرة بصرياً. هذا الجمع الذي بدأ واضحاً خلال عمله في السنوات الأخيرة، لا يمكن عزله عن بعضه، لأنه يشكل وحدة تمتلك ملامحها من خلال الألوان التي منحها قيمة مطلقة، مثقلة بشحنة الانفعال، الصافية والرائقة والتي تبدو أحياناً وكأنها غير متصالحة بعضها مع بعض على سطوح لوحاته. فهو في مركباته التعبيرية يعتمد هيمنة الحدس والمخيلة، هيمنة الرؤية على المعرفة الذهنية، واسقاط حالته الفردية على الإنسان الذي يشغل كل مساحات لوحاته المرسومة وبتعبيرية تلقائية يتجاور فيها الأحمر الناري والأزرق الليلي مع الأصفر المحترق، ما يوحي بالتضاد، ويحمل قدراً كبيراً من التكامل المتوازي بين نقيضين. تتصف اللوحة عند جبر بالتسطح المعتمد للأشكال، التي تبرزها لمست الطلاء نفسها الدالة على الخطوط المضطربة والمستمدة من حركة الأجسام وارهاصاتها التعبيرية. سطوحه الملونة التي لا تحددها في أحيان كثيرة إلا خطوط تتصف بالصلابة وعدم الانتظام، أضافت قدراً ملموساً من الحيوية البصرية على الشكل المطلوب انجازه والتي تشعر المتلقي بتلخيص بليغ ومفاجئ للموضوعات التي يطرحها الفنان. مع أن ما يطرحه يعتبر سهل القراءة ويتيح في معظم الأحيان فرصة التقارب مع الواقع المرئي، ذلك أنه يتخذ من الإنسان موضوعاً يعبر من خلاله عن أحاسيسه. وتعبيرية جبر علوان التي قامت على تشويه الأشكال وعنف اللون اللاواقعي، وعملت على استثمار مصادر الاضطراب، ما زالت ملتزمة بمشاكل الناس الذين صورهم بمحبة وروعة، ومرتبطة بعالم الظواهر التي تحيط بنا اجتماعياً، وتبدو لحظة معاشة، رسالة ملونة صامتة غير متحركة، إلا انها تولد لدى المتلقي انطباعاً بالحركة التي تحيل كل ما هو مجرد حسياً. ويمكن أن يقال ان فنه استدلالي، يبدأ بتجريد بنية اللوحة في طريقة لا تحمل أي ايهامية، انها بنية سريعة تتمثل بوضع مساحات كبيرة من اللون تقوده لتحديد الشكل المطلوب انجازه. تعبيرية جبر علوان ذات صلة وثيقة بالحياة الواقعية، تتشبع بمرونة جميلة في استخدام اللون، وفيها يعمل الضوء على الإيحاء بتجسيم الأشكال وإعلاء قيمة التعبير فيها. وهي تنحو الى التخلص من المفهوم، والى التبسيط في الشكل، ويساعد الفنان اللون الذي تزهو به الشخوص والسطوح الخلفية، وفي حالات أخرى يلاحظ المشاهد انطفاء هذه الألوان لتطغى عليها الألوان الرمادية. ذلك ان اللون بقيمته التعبيرية عند الفنان يتحدد بمساحات مختلفة الملامح والهيئات ويكاد يتساوى مع الوحدات التي يتناولها سطح اللوحة ومن مستويات مختلفة للتجربة. الدراسة الأكاديمية التي تلقاها الفنان امتدت سنوات، ابتدأها في معهد الفنون في بغداد وأكملها خلال سنوات عدة في أكاديمية الفنون في روما دراسة الرسم والنحت، ومكنته من اكتساب مهارات ادائية مصحوبة بكثافة الممارسة التقنية لمعالجة سطح اللوحة وعلاقة الضوء بالظل، والكتلة بالفراغ. وقد بنى كل هذا على حسيته بأهمية هارمونية اللون وتناقضاته، والتحوير في الشكل، اضافة الى استلهام الصور المرئية للواقع وتأويلها في موضوعات جديرة بالرؤية، تبني نفسها بنفسها بعض الأحيان بقلق صوفي يسم الإنسان العراقي وهو يحاول تخطي الواقع ليستنبط عوالمه ومفرداته الخاصة. لا تتبع تعبيريته في مسيرتها العامة منهجاً فنياً محدداً تلتقي عنده كل أعماله، الا ان خبرته الطويلة ونضوجه أكدا انطباعيته ودفعاه الى ان يطورها منطقياً ومنهجياً، ليصبح أكثر اقتراباً الى انبوب اللون مع الاعتماد على ضوء المرسم الاصطناعي الذي أتاح له عدم الخروج من مرسمه لمواجهة الطبيعة والناس. وهكذا أمحت الظلال والظلال المنقولة والأضواء الخافتة، واستأثرت باهتمامه الألوان الحارة المتبدلة دوماً لتعطيه القوة التعبيرية لمساحات اللون الصافي. تمزقات جسد المرأة، وذلك الشكل الرمزي لشاعر محتضر، أو ذلك الموسيقي الذي أصبح جزءاً من آلته الموسيقية، أو ذلك المتأمل بحذره وكيانه الضخم المملوء بالرغبة، صور المقاهي والمهاجر... كل هذه الموضوعات عبارة عن محاكاة تعبر عن محبة كبيرة للإنسانية، رسمها بألوان جنونية تذكرنا بكوابيس السرياليين، إذ أصبحت هذه الكوابيس بمثابة كوامن لا يمكن استئصالها من تفكيره. وهذا ما يجعل لوحته مثل الحقل التصويري غير المشذب، إلا أنها زاهية تحركها الضربات اللونية المنفعلة والمتحركة والخطوط المتموجة المتكسرة والمعبرة عن حس داخلي عميق وربما ألم نفسي عراقي ينعكس في أعماله. نرى في أعماله الأخيرة التي تقترب الى الواقعية، لونية جديدة أكثر تألقاً وصفاء، وملاحظة للطبيعة البشرية أكثر دقة ونفاذاً كما الحال في مجموعته الأخيرة التي خصصها للمقاهي وقد أعاد بناءها بالعفوية والاحساس المباشر، وجعلها موضوعاً حيوياً يلامس حياة الناس في كل مكان.