ثلاث سنوات من الحب اختصرت حياة إيديث بياف ومارسيل سيردان. صعدا من قعر السلم الإجتماعي إلى الشهرة والمجد ليجسّد كل منهما في اختصاصه ذروة الفن والنجاح العالمي. فتشبّثا بحبّهما كما اليتيمين الصغيرين التائهين في عالم الكبار... واللذين لا حياة لأحدهما من دون الآخر. هي إيديث بياف، فرنسية عملاقة في غنائها وصوتها الملائكي الذي ابكى الملايين وكلمات أغانيها التي تنحفر في الأعماق. أحبّت مارسيل سيردان، الملاكم "الجزائري" الذي علا اسمه كشهب النار، حائزاً بطولة العالم وقلبها. عشقته بمباركة زوجته وأولاده الثلاثة قبل أن يقتل في الثالثة والثلاثين من عمره في حادث طائرة فيما كان متوجهاً إليها، فتركها وحيدة وبقي غيابه عنها جمرة تحرقها وعقدة ذنب تكوي حياتها على رغم الشهرة... والرجال الذين تلوه ولم يملأوا فراغه. ابنة الشارع عملاقة الفن تنقلت إيديث بياف في نشأتها بين أزقة عاصمة النور باريس والريف الفرنسي حيث جدّتيها، فيما كانت والدتها تمتهن الغناء غير آبهة بها، ووالدها يعمل بهلواناً في سيرك متنقل. واكتشفت صغيرة قدرة صوتها على سحر المستمعين بعدما رافقت والدها في عمله وبدأت الغناء على مسرحه. وقررت الانطلاق وحيدة في ميدان الفن في الخامسة عشرة من عمرها، تغني هنا وهناك في شوارع باريس... لا سيما حيّ "بيغال" المعروف. واستهلت سلسلة حياتها الصاخبة بلقاء "لويس الصغير" الذي أنجبت منه ابنة، ماتت بعد سنتين، ما شكل الجرح الأول في حياتها ولم تبلغ بعد سن الرشد. استمرت تغني في الشوارع إلى أن انتقلت إلى مسرح أحد دور اللهو المهمة الباريسية حيث أطلق عليها اسم "العصفور بياف" في إشارة الى حجمها الصغير والهش الشبيه بالعصفور. وبدأت الحياة تبتسم لهذه الصغيرة التي كانت تأسر جمهورها على رغم قصر قامتها التي لم تتجاوز ال148 سنتميتراً. ولم تكد تبلغ الثالثة والعشرين من عمرها حتى باتت نجمة فرنسية مشهورة، تارة تغني ألحاناً يرددها الجميع، وطوراً تمثّل أدوار البطولة في المسرحيات والأفلام السينمائية التي أبرزت موهبتها العميقة في اداء الأدوار الدراماتيكية. تصاعدت حياة بياف نحو القمة، تلتقي الرجال وأبرزهم إيف مونتان. تقع في حبهم لسنة أو سنتين، تطلقهم فنياً قبل أن تتعب منهم، وتتركهم جانباً... وكأنها كانت في بحث دائم عن ذلك الحب الكبير الذي سيملأ حياتها. القدر سلبها حبها عشقت بطل الملاكمة مارسيل سيردان ما إن وقع نظرها عليه في أحد ملاهي نيويورك حيث كانت تغني في أول جولة أميركية لها. دعاها إلى العشاء... وبقيت بين ذراعيه. كان يجسد كل ما تفتقده: القوة الهادئة التي ستحميها من أعاصير الحياة، الحنان الأكيد الذي بحثت عنه دوماً، الحب الذي سيبعد عنها كل أذى، الملجأ الأمين الذي سيضع حداً لحياتها المتقلبة. لحقت به إلى المخيم حيث كان يتدرب، وعاشا كالمراهقين بعيداً من عيون الفضوليين. يقهقهان سعادة في ألعاب مدينة الملاهي أو يسيران جنباً إلى جنب في الأزقة الضيقة. هو بات بطل العالم للوزن المتوسط وهي يتصاعد صوتها كالسهم على المسرح. اشترت من أجله فندقاً خاصاً في باريس بسعر 19 مليون فرنك فرنسي لتخبئّ بين جدرانه حبهما، وجهّزت له صالة خاصة لتمارينه. ولم يعكر صفو حبهما اي مشكل أو سوء تفاهم لأنهما من الطينة نفسها. "مدفعي جزائري" من فرنسا فمارسيل فقير مثلها، نشأ في شوارع سيدي العباس الضيقة في الجزائر. وكان على موعد مع الشهرة العالمية ما إن بدأ الملاكمة في السابعة عشرة، لاحقاً بخطوات أشقائه الذين احترفوا الملاكمة قبله. فاز بثلاثين بطولة متتالية في أفريقيا الشمالية، ولقّب ب"المدفعي الجزائري" قبل أن يلتحق بالجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية. ولم تكد تنتهي الحرب حتى عاد مارسيل إلى الملاكمة ليلمع اسمه في الميدان الرياضي. وتابع نجاحه المتصاعد وصولاً إلى لقب بطل أوروبا للوزن المتوسط، ومن ثم بطل العالم في مباراة تاريخية في أميركا. وبدا أن الحظ يفتح له ذراعيه لأنه يملك كل شيء: زوجة متفهمة وأولاداً محبين ينتظرونه في الدار البيضاء، مهنة تقدم له أكاليل الغار الواحد تلو الآخر، وحبيبة يعشقها ويعيش معها أجمل أيام حياته. خاض 113 مباراة، لم يخسر منها سوى ثلاث فقط... ولم يقهره سوى القدر الذي انتظره في ليلة عاصفة من خريف 1949. وبقي الحبيبان يسبحان في السعادة لثلاث سنوات اختصرت عمرهما بأكمله. ألّفت إيديث من أجل عيني مارسيل كلمات أغنية "نشيد الحب"... قبل أن تضطر الى المغادرة مجدداً إلى الولاياتالمتحدة الأميركية حيث كانت في انتظارها ارتباطات عملية عدة. هناك، افتقدته كثيراً، اتصلت به تحثّه ليوافيها، لبّى نداءها واستقل أول طائرة متوجهة إلى أميركا... سقطت في جبال الآسور من دون أن ينجو أحد من ركابها. ...وفي المساء، رفضت إيديث إلغاء حفلتها المقررة. وقفت على المسرح وغنّت بلوعة حبها المفقود، أنشدت ألمها كما لم تفعل أي مغنية من قبل... إلى أن سقطت فاقدة الوعي على الخشبة. ومنذ ذلك الوقت، فقدت البسمة التي لم تفارق ثغرها في السابق، ولم تعد يوماً كما كانت من قبل. فحرصت على الاهتمام بعائلة مارسيل كما لو كان موجوداً. زارتها في الدار البيضاء، رعت الأرملة والأطفال الثلاثة الصغار. دعت في ما بعد ابن حبيبها "مارسيل الصغير"، إلى السكن في بيتها في باريس لاحتراف مهنة الملاكمة كما والده. شجعته ليفوز باللقب الذي خسره أبوه قبل مقتله... فكانت العطاء والحنان مجسدّين في سيدة صغيرة ونحيفة ترتدي فستاناً أسود بسيطاً ويملأ صوتها كل المساحات. مريضة بدأت العد العكسي وترجمت إيديث الجراح التي ألحقها بها القدر في كلمات أكثر من 80 أغنية كانت تعكس دوماً عمق أحاسيسها. أنشدت لمارسيل بعد موته "وما همّي إذا اقتلعتك الحياة من بين ذراعي، إذا أخذتك بعيداً منّي، إذا كنت تحبني... لأنني سأموت أنا أيضاً". ولم تكد تمضي سنتان على غياب مارسيل حتى بدأت إيديث العد العكسي لصحتها التي تدهورت في شكل كبير بفعل إدمانها على الكحول، وفي ما بعد على مادة المورفين التي كانت حُقنت بها في المستشفى في أعقاب حادثتي سيارة تعرضت لهما. وبدأت تتبّع العلاج تلو الآخر للتخلص من إدمانها فيما كانت في قمة شهرتها... من دون أن تنجح. حاولت إخفاء الأمر عن الصحافة فسجنت نفسها لأشهر طويلة في المنزل ولم تبلغ بعد السابعة والثلاثين من العمر. ولم ينشّطها سوى نبأ غنائها مجدداً في أرقى المسارح الفرنسية في "الأولمبيا". فعادت وانطلقت شهرتها من جديد بعدما تكرّست عالمياً في نيويورك، ما ساعدها على تخطي إدمانها نهائياً. لكن صحتها كانت تدهورت الى نقطة اللاعودة. استهلت سلسلة من العلاقات العاطفية التي انتهى بعضها بالزواج ومن ثم الطلاق. وتابعت حفلاتها الأوروبية والأميركية على رغم صحتها المتعثرة ونصائح الأطباء الذين منعوها من الوقوف على المسرح. فقالت للطبيب الذي بادرها بالقول: "سيدتي، إنك تنتحرين"، "هذا الانتحار ملك لي، ويعجبني". غنّت "لا، إنني لست نادمة على أي شيء" وأسرت العالم بعمق نبرات صوتها. وقفت في أعلى برج إيفل لتنشد للملوك والرؤساء الأوروبيين أغنيتها"ولمَ الحب؟"... قبل أن تقع في غيبوبة شبه كاملة استمرت 6 أشهر انتهت بوفاتها عن عمر ناهز الثامنة والأربعين. فجمعت للمرة الأخيرة الملايين حول نعشها الذي لا يزال يغطّى بالأزهار إلى اليوم، مختتمة حياة عاشتها مئة في المئة، كما قالت، ولم تندم على أي لحظة منها... لأنها ستكرر اليوم أخطاء الأمس، شاكرة ربها عليها.