صورة: كم عدد الصور التي اخذت لهذه الحرب الجديدة التي يمكن اعتبارها اكبر حرب اعلن عنها وأكثر حرب صورت في تاريخ البشرية؟ ألف؟ عشرة آلاف؟ مليون؟ ثم كم صورة ستبقى منها؟ صور عدة بالتأكيد. ومنها في شكل اكثر تأكيداً واحدة التقطت في مستشفى بغدادي: طفل بالكاد تجاوز الثالثة من عمره. جريح مضمد. يبكي بقوة: ليس من الألم بالأحرى ولكن من الخوف على الأرجح، الخوف من الحرب؟ ليس تماماً. تقول الصورة بكل فصاحة انه يبكي رعباً من كاميرات المصورين المحيطة به المداهمة من كل مكان. بعضها يصور من يصور والطفل في الوسط. عقله الطفل ربما يسأل: لماذا تريدون ان تجندوني في هذه الحرب باكراً على هذا النحو؟ هل يتذكر احد اوميرا الصغيرة، ابنة اميركا الجنوبية التي أغرقها طوفان فهرعت الكاميرات لتصور وتصور موتها البطيء، من دون ان يهرع لإنقاذها أحد؟ صورة: هل سيحسب رونالد ريغان، في التاريخ، ملاك رحمة مقارنة بجورج بوش؟ سؤال لا بد من طرحه بكل موضوعية: خلال الغزو الإسرائيلي للبنان وفتكه ببيروت، وضع احدهم على مكتب الرئيس الأميركي آنذاك، رونالد ريغان، صورة ل"طفلة" جريحة بفعل قصف اسرائيلي. قيل يومها ان ريغان حين شاهد الصورة ذهل واتصل بالإسرائيليين مؤنباً. قيل ان مسؤوليهم اكدوا له ان الصورة لطفل لا لطفلة فهدأ. ترى حين يشاهد جورج دبليو كل الصور التي نشاهد لأطفال عراقيين قتلى ما سيكون رد فعله؟ هل تراه يقول لنفسه مطمئناً: إنها صور لصبيان لا لبنات؟ صورة: واحدة من المحطات الفضائية أتتها فكرة مدهشة: مزجت بين صور تظاهرات في انحاء العالم فيها مئات ألوف ينددون بالحرب، وفيها رجال شرطة يتصدون لهم ويضربونهم بالهراوات. أمر مدهش، كم بدا المتظاهرون يشبهون بعضهم بعضاً. والأكثر منه إدهاشاً ان رجال الشرطة انفسهم بدوا ايضاً وكأنهم توائم في كل الصور والمشاهد وفي كل البلدان والمدن. فهل نضيف ما قاله صديق من ان وجوه رجال الشرطة في كل انحاء العالم، متخلفة ومتحضرة، بدت شبيهة بوجه جورج دبليو تحت ملامح ابي معركة الحواسم؟ صورة وأصوات: على قناة "ال بي سي - الحياة" حوّل الزميل مارسيل غانم برنامجه الحواري من اسبوعي الى يومي. اراد ان يواكب الحدث. حسناً فعل: وسط ركام الزعيق العام والشعارات المبهجة والصور المتلاحقة، فرض بعض هدوء على نوعية الحوارات التي اجراها. هل نجح؟ بقدر ما كان يمكنه ان يفعل... بقدر ما كان يمكن لأحداث محمسة ان تسمح له. ومع هذا يهتف "الياس" من عمان، مبدياً إعجابه ولكن "مأخذي عليك يا اخ مارسيل انك لست متحمساً وأنك اعطيت فلان الكويتي وقتاً تحدث خلاله"! وحتى في البرنامج، حين يستضيف سفيراً لبنانياً سابقاً في واشنطن، مقابل صحافي لبناني شديد الحماسة، يعجز عن إقناع هذا الأخير بترك فرصة للأول ليتحدث، لكي يدلي ببعض المعلومات المفيدة. فالوقت لا للشرح، بل للبديهيات المريحة. وفي اليوم السابق كان نائب من بيروت - متحمس كثيراً هو الآخر - اعطى صاحب "كلام الناس" درساً في هذا: تحدث من دون انقطاع كشلال هادر، ليقول في النهاية ان سيد العراق الحالي رمز الأمة العربية من المحيط الى الخليج، لكنه لم يحدد ما اذا كان يعتبر حلبجة جزءاً من هذا البحر الهادر، ولا إذا كان يرى في ذلك الكيماوي مساعد بطل الحواسم، رمزاً آخر للأمة. النتيجة ان الجماهير صفقت لشلال الكلام، ولامت اي شكاك مقيت! صوت وصورة: على الفضائية نفسها، ظهر طارق عزيز في اليوم التالي في حديث طال ساعتين ربما. بصراحة: كان الأفضل اداء بين كل المسؤولين العراقيين الذين تحدثوا امام كاميرات التلفزة حتى الآن. قدم شرحاً وافياً، تحدث بهدوء. لم يوزع الاتهامات، طبعاً دافع عن نظامه ولكن في كلام يقترب الى ادنى حد ممكن الى المنطق. لا شك ان هدوءه خيّب كثراً. وعلى الأرجح ان هذا الهدوء وهذا الاتزان، وهذه الثقة العقلانية بالنفس، هي ما يمنع طارق عزيز من ان يظهر على إيقاع ظهور الآخرين. قارن بين خطابه، وخطاب نائب رئيس الجمهورية الشاتم الهادر في اليوم نفسه، لتفهم السبب. ترى لماذا لا تستفيد السلطة العراقية من المناسبة، وتجعل طارق عزيز - استثنائياً - وزيراً للإعلام؟ بالتأكيد كان سيكسب ما خسره الإعلام العراقي ب"فضل" مسؤولين آخرين! صوت من دون صورة: هل سيقول لنا صاحب مكتبة، بعد حين، انه، ومن دون توقع، لاحظ ارتفاعاً في نسبة مبيعات القواميس العربية - العربية، منذ اليوم التالي لاندلاع الحرب؟ ربما. والسبب واضح: وزير الإعلام العراقي، الدمث عادة والعقلاني في معظم الوقت، اختار لمخاطبة الرأي العام العربي، والعالمي ايضاً، لغة وردت فيها كلمات ومفردات، إما لا يعرفها احد وإما نسيت منذ زمن. قصب السباق كان لكلمة "علوج" ثم "طراطير" ثم "عكاريت". الجمهور المتعب الذي اراد ان يفهم شيئاً وجد لزاماً عليه ان يراجع القواميس لكي يفهم شيئاً. في الماضي كان يقال ان مصر تكتب، لبنان ينشر والعراق يقرأ. اما الآن فالمسؤول الإعلامي العراقي يبتكر والأمة كلها تبحث في القواميس... وتصفق. على اي حال تظل هذه اللغة بسيطة ومحمولة مع صورة وصوت آتيين من حرب الخليج الثانية: الصحافي الأجنبي يسأل وزير الثقافة العراقي يومها، لطيف نصيف جاسم، عما سيفعل العراق بأي مظلي اميركي يحاول الهبوط ويقبض عليه. اجاب مبتسماً "بهدوء": "سنقتله، ندق عنقه ونرمي جثته للكلاب"، يومها قيل ان الفرنسيين زعلوا كثيراً فهم لا يحبون لكلابهم مثل هذا الغذاء الوحشي! صورة من دون صورة: مرة اخرى تفرض الصورة نفسها: مذيعة الأخبار المسكينة ترجو مراسليها "في بغداد، في البصرة، في الموصل" وفي اي مكان ان يبتعدوا بعض الشيء عن حيز الكاميرا لكي يشاهد الجمهور شيئاً آخر غير وجوههم الكريمة يملأ الشاشة. واحدهم، من البصرة على ما اعتقد، كان أكرم من غيره: فيما الكاميرا ثابتة على وجهه، راح يصف ما وراءه: على يميني البستان الفلاني، على يساري الجسر العلاني. هناك طائرات تحوم في السماء. صواريخ تهبط. انفجارات. انني اراها. انني اراها، يصرخ ووجهه يملأ الكاميرا... اما نحن، معشر عباد الله الصالحين من المتفرجين فإننا لا نرى سوى وجهه... صورة في الصورة: هل تعرفون دلالة التعبير المتحدث، نقلاً عن بيتر هاندكه عن "عزلة حارس المرمى في لحظة ضربة الجزاء"؟ حسناً... في كل مرة تثبت فيها الكاميرا على سماء بغداد في انتظار غارة، عشر دقائق، وربما ربع ساعة او اكثر، يخيل الى المرء ان المذيع، بعيداً من بغداد يسأل في سره، ومسؤولوه يسألون معه: متى تسقط القذيفة؟ متى يقع الانفجار؟ ولماذا لم تحدث الغارة بعد؟ متى نحقق السبق؟ هل ثمة، في تلك اللحظة من يسأل قلقاً عن اين ستسقط؟ فوق اي حي شعبي؟ فوق اي مدنيين؟ فوق اي ابرياء؟ ربما... ولكن في معظم الحالات، اسئلة اقل "مهنية" من هذا النوع تؤجل الى اليوم التالي. لها وقتها. ولها صور الجثث الممزقة والعويل والمستشفيات. اما الآن فنحن في "ملكوت البصاص" سيد اللعبة اولاً وأخيراً.