افتتح معرض الفنان العراقي إياد شلبي قبل انفجار الحرب بأيام، فكان صدى لقرع طبولها المبكر، وأهدى المعرض وفق ما جاء في عنوانه الى بغداد. علق لوحات رؤوسه ومرايا وجهه وأقنعته على جدران المركز الثقافي "اندريه مالرو" الذي يقع في "روزني سوربوا" في ظاهر العاصمة الفرنسية. إياد شلبي مستقر في باريس منذ عام 1980 مثله مثل سعيد الصكّار ومهدي مطشّر وصلاح مسعودي ورمزي قطب الدين وفنجان وهمت وغيرهم من رموز اغتراب الفن العراقي في باريس. عادت منها رفات الرائد فائق حسن عام 1991: رماداً في زجاجة، وكذلك ارداش. وعانقت لفترة طويلة اسماعيل الشيخلي ومحمد غني ودرس فيها جواد سليم. لعلها عاصمة الهجرة التشكيلية. كتب إياد شلبي في مقدمة كراس المعرض بالفرنسية نصاً رهيفاً يقول: "ان صفة الانسانية اثمن ما يملكه الانسان. هو ما يتناقض مع القرارات المتسرعة التي نشهدها، والتي جعلت اللامعقول في حكم المنطق والمعقول. لا اعثر خلال هذا اللهاث المجنون باتجاه صدوع الحرب على صرختي المعترضة إلا من خلال نداء الفرشاة وصوت الالوان، تسجل اللوحة شهادة ابصار اليوم. لتكون قراءة لجيل المستقبل، على امل ان يعاد كتابة التاريخ من جديد بمداد التسامح". تنتقل العين بعد ذلك من خلجات هذا النص الى سلسلة لوحاته التي تصور رأسه المكبل بالهم والأرق، مصبوغة بألوان الحداد والغبطة في آن واحد. تعرفت على اعمال شلبي منذ اكثر من عقد من خلال معرض باريسي شاركه به الفنان اللبناني ايلي بورجيلي، ثم من خلال معرضه الشخصي في تونس، وتعددت بعد ذلك اللقاءات مع لوحته. كان يأسرني كل مرة اختياره الخاص لدرجات الالوان الغارقة في بياض كلسي اقرب الى تأثيرات اقلام الحوّار والباستيل، تبدو اعماله دوماً وكأنها شظايا زجاجية صريحة اللون، محمولة مع حقائب سفره وذاكرته الجغرافية من موروث السيراميك في الكاظمية ومعبد عشتار ومن ثريات المرايا المتعاكسة والزجاج المعشّق. تعربد فرشاته كل مرة بعصبية واحتدام عاصف داخل هيئة الرأس وخرائطه المحبطة. تنتسب تجربة اياد - على رغم اشراقات اللون - الى الحساسية "التراجيدية" التي طبعت الفن العراقي، هو المحترف التعبيري الذي استقل بخصائصه المأسوية والملحمية الرافدية منذ انطلاقة جواد سليم الاولى، اي منذ تأسيسه عام 1951 ل"جماعة بغداد للفن الحديث"، من دون ان ننسى ما كان لفائق حسن قبله في "جماعة الرواد" قبل عام من اطلاق للأحصنة والجياد العربية الاصيلة. تجسد في هذه الانطلاقة ذلك التشريح الغاضب والمتوتر في الحصان الجامح والجسد الانساني المتقرح. لم يفلق من تقاليد هذه الانطلاقة حتى النحات العراقي المعاصر سليم عبدالله المقيم في جنيف. اشعلت حرارة هذه التقاليد النكوص الفني الى هيئة المحارب والكاهن السومري والأكادي بالعينين الدهشتين المحدقتين في المطلق. لا شك في ان عمل جواد سليم في المتحف وفي الآثار ورّث الاهتمام بهذا الرأس الميثولوجي لمواهب الجيل التالي الذي مثله ضياء العزاوي جماعة "الرؤيا الجديدة" وطواطم علي طالب جماعة "المجددون". لا شك ايضاً في ان الرمز المؤسس لهذه المأسوية التعبيرية "الميثولوجية" هو "نصب الحرية" الذي صممه جواد سليم عام 1958. وصبه من البرونز وظل يعمل فيه اكثر من عام ونصف العام، بما يشتمل عليه من 25 قامة ملحمية بشرية. ولا يزال ينهض في وسط ساحة التحرير بامتداد خمسين متراً وارتفاع ثمانية امتار، في تلك الفترة استغرق معاصره كاظم حيدر في جماهيره الكربلائية المحتدمة ممثلاً تلك اللحمة التعبيرية المأزومة بين الفرس والفارس، ثم طالعنا النحات اسماعيل فتاح الترك بأجساده المهترئة امام الجدران الملحمية، مستعيداً رسوم رؤوس المحاربين السومريين ضمن تحولات اغترابية لانهائية. وشردت موهبة زوجته ليزا باتجاه درامي اشد قسوة ضمن تقاليد الجسد السومري المحكوم بأصفاد القمع والعدوان. قد تكون رؤوس علي طالب من اشدها تمركزاً في قلب هذه الخصائص "السيزيفية" الملتاعة. هي التي اعتبرها دريئة تصويب مستباحة من قوى القمع، وحاز عليها جائزة التصوير في احدى دورات "بينالي القاهرة". يكتب سهيل نادر عن معرض طالب عام 1976 بخصوص الالتباس بين الملحمة والأسطورة يقول: "تحول الرجل الى هشيم لم يبق منه غير الرأس، ويندفع جسد امرأة عار بلا رأس". يصور ما يدور في مدن رأسه التي تعاني الاغتيال اليومي، تعكس ما يعتلج في روحه من انكسار وقلق قدري دفعه للهجرة عن مرآة وطنه في ابعد المكامن الاوروبية، وكان لي حظ اللقاء في العام الفائت مع آخر المنحوتات العملاقة لاسماعيل فتاح الترك في واحد من محترفات الشيخ حسن آل ثاني في قطرالدوحة، كان مستغرقاً في بعث جمهور من المحاربين السومريين بالقياس الطبيعي، لعله من اشد اعماله تلغيزاً وكشفاً لمواطن اخرى من تقاليد الرأس والجسد المأزوم والمغترب في ذاكرة التعبيرية العراقية. هو ما يدعوه ضياء العزاوي بعلاقة الاغتراب الانساني براهنية الاسطورة. فقد تحول لدى هؤلاء المحارب السومري الى فدائي او شهيد عربي، دماؤه تسفح ما بين فلسطين والعراق. تنطبق رؤيا العزاوي على الأخص على مدن زميله النحات طارق ابراهيم، مدن اثرية ميثولوجية صيغت بعبثية وحلمية مدهشة من مادة النار: السيراميك المقزح. رؤوس الحصار شهدت باريس في عام 1999 معرضاً لا ينسى لهول ما حمله الفنان والجراح علاء بشير من مآسي القصف ورؤوس الحصار، اخترق المعرض صالة أرسي جدار الصمت المضروب على صوت الفن العراقي وعلى آلامه المبرحة. تعلن طزاجة الموت في رؤوسه المهشمة نهاية العالم وتصدعات جحيمه، خصوصاً انه ينقل تجربته الجراحية لما يصادفه من حالات مريعة في مستشفى بغدادي يومياً. حملت رؤوسه الفخارية الى الضمير الفرنسي عويل الويلات التي اجتثها من هشيم بغداد، ومن اهرامات الجماجم التي خلفها هولاكو منذ عام 1258م. تمثل واحدة من هذه الرؤوس درجة من التشوه والذعر الملطخ بالدم، قد تكون من اكثر المشاهد التي مرت معه في المستشفى هولاً وتنكيلاً. ينبش معرض إياد الشلبي بالنتيجة هذه السمة المأسوية المتناسخة في تراكمها الميثولوجي والتي طبعت اصالة وتجربة "التعبيرية العراقية" خلال نصف قرن. والتي جعلتها من اشد الحركات العربية المعاصرة احتداماً تراجيدياً، بعض اصولها تسرب الى المحترفات المعاصرة في الخليج من فنانين مؤثرين درسوا في بغداد بمستوى عبدالله الشيخ في السعودية وابراهيم بو سعد في البحرين.