مجلس الوزراء يقر ميزانية 2025 ب 1.184 تريليون ريال    التعليم تسلط الضوء على تمكين الموهوبين في المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع    إسرائيل تستبق وقف النار.. اغتيالات وغارات عنيفة    تنفيذ 248 زيارة ميدانية على المباني تحت الإنشاء بالظهران    أمانة الشرقية : تطرح فرصة استثمارية لإنشاء مركز صحي لعلاج حالات التوحد والرعاية الفائقة    مسؤول إسرائيلي: سنقبل ب«هدنة» في لبنان وليس إنهاء الحرب    السجن والغرامة ل 6 مواطنين.. استخدموا وروجوا أوراقاً نقدية مقلدة    جمعية لأجلهم تعقد مؤتمراً صحفياً لتسليط الضوء على فعاليات الملتقى السنوي السادس لأسر الأشخاص ذوي الإعاقة    السعودية تتصدر العالم بأكبر تجمع غذائي من نوعه في موسوعة غينيس    هيئة الموسيقى تنظّم أسبوع الرياض الموسيقي لأول مرة في السعودية    الجدعان ل"الرياض":40% من "التوائم الملتصقة" يشتركون في الجهاز الهضمي    ترمب يستعد لإبعاد «المتحولين جنسيا» عن الجيش    بوريل يطالب إسرائيل بالموافقة على وقف إطلاق النار في لبنان    «الإحصاء»: الرياض الأعلى استهلاكاً للطاقة الكهربائية للقطاع السكني بنسبة 28.1 %    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    الطائرة الإغاثية السعودية ال 24 تصل إلى لبنان    سجن سعد الصغير 3 سنوات    حرفية سعودية    تحديات تواجه طالبات ذوي الإعاقة    تحدي NASA بجوائز 3 ملايين دولار    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    «الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    فصل التوائم.. أطفال سفراء    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    ألوان الطيف    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    حكايات تُروى لإرث يبقى    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    من أجل خير البشرية    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    المملكة تستضيف المعرض الدوائي العالمي    خادم الحرمين يوجه بتمديد العمل ب"حساب المواطن" والدعم الإضافي لعام كامل    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاجماع واحترام القانون يعطيان القوة شرعية ويقربانها من العدل في أزمة العراق وغيرها
نشر في الحياة يوم 03 - 04 - 2003

الكلمة التالية ألقاها وزير الخارجية الفرنسي قبل أيام في لندن، مشدداً على روابط بلده ببريطانيا وبالولايات المتحدة الأميركية، ومحدداً الرؤية الفرنسية تجاه الحرب على العراق، مع التدقيق على سبل الخلاص بالحدّ من نهج حل النزاعات بالقوة، فذلك قد يؤدي في رأيه الى انفلات الأمور حتى من يد الولايات المتحدة وحلفائها. وفي كلمة الوزير الفرنسي استشراف لمستقبل العالم بعد 11 أيلول سبتمبر وبعد انقضاء أكثر من عقد على انهيار المعسكر الاشتراكي.
السيد الرئيس / سيّداتي، ساداتي / من دواعي الشرف أن أحضر بينكم استجابة للدعوة التي وجهتموها لي لكي ألقي المحاضرة التي تلقى مرة كل سنة تكريماً لذكرى مؤسّس معهدكم، ألاستير بوشان. لا شكّ أنّ معهداً كهذا يفسح مجال تبادل الآراء والنقاش الضروري للتفكير والعمل، يتخذ بعداً مهماً في زمن الأزمة الذي نمر به اليوم.
أتكلم أمامكم في لحظة حاسمة من تاريخنا، في لحظة خطيرة تشهد تدخل المملكة البريطانية في عملية عسكرية في العراق. أتمنى بالطبع أن ينتهي النزاع بسرعة وألا يكون دامياً بقدر الإمكان.
لذا جئت إليكم بروح من الاحترام والصداقة والتحاور، واعياً تماماً المحنة التي يجتازها بلدكم وجنودكم الذين يتعرضون للموت. جئت وأنا عاقد العزم على سلوك طريق المستقبل معكم، بغضّ النظر عن خلافات بلدينا الحاليّة. فأنا مقتنع بأننا لن نتخطى عقباتنا إلا إذا قسنا ما يفصل بيننا، بكل بوضوح وصراحة، كما أنني مقتنع بأننا في حاجة إلى مزيد من الوحدة في العالم المضطرب الذي نعيش فيه. أخيراً، لديّ أمل هو أن أقدم لكم رؤية فرنسية تستهدف البناء وعقد الحوار مجدّداً.
ونظراً لكون فرنسا والمملكة البريطانية عضوين دائمين في مجلس الأمن، تقع عليهما مسؤوليات خاصة، ينبغي أن تمارساها توخياً للهدف نفسه وهو تأمين الاستقرار الدولي والأمن والسلام، الأمر الذي يفترض أن نحدد معاً التوازن الضروري لكل عمل دولي، أي القانون والقوّة والعدل.
أين كنا قبل عشر سنوات؟
من الواضح أننا ولجنا عالماً جديداً مع انتهاء المجابهة بين المعسكرين، وإذا وضع القانون في صميم الانشغالات الدولية، فإنّ علاقته بالقوّة قد تغيّرت جذرياً.
وهكذا وبفضل سياسة الردع النووي، تمّت المحافظة على الأمن لمدة خمسين سنة. كان الغرب والعالم الشيوعي يدركان أن اللجوء إلى القوة قد تنجم عنه أضرار هائلة للجانبين، فالحرب قد تعني فشل الردع ونهاية العالم المحتومة.
غير أنه مع نهاية الحرب الباردة، أصبحت القوة من جديد خياراً محتملاً فهي لم تعد تسبّب أضراراً تفوق المكاسب التي يمكن لدولة عظمى أن تتوقع تحقيقها. وإذا لم يتم اللجوء إلى القوة إلا قليلاً فهذا ينسب لسببين هما: لم يلق تأكيد القيم الغربية معارضة كثيرة ولم تلجأ الولايات المتحدة إلى القوة إلا باعتدال. والمعلوم أن الاعتدال وحده هو الذي يجعل القوة مقبولة، كما كان يقول توسيديد: "نستحق المدح والثناء لأننا كنا أكثر عدالة مما كانت تفرضه قوتنا".
مع ذلك، فلا يمكن لأي نظام دولي أن يقوم على مشيئة الدول العظمى. ولذا حددت معايير جماعيّة تستهدف كبح استعمال القوة في حدود المسؤولية الجماعية. ولقد سجّل هذا النظام نجاحاً مهماً. إذ وضع حداً للاعتداءات، ونذكر في هذا الصدد أنه في سنة 1991سمح احترام القانون واللجوء إلى القوّة بطرد صدام حسين من الكويت. ولا بدّ أن اعتداء مماثلاً اليوم قد يؤدي لا محالة إلى رد فعل فوري وحازم من المجتمع الدولي.
علاوة على ذلك، سمح هذا النظام بنجدة السكان ضحايا الحرب الأهلية أو الأنظمة المستبدة أو الكوارث الطبيعية. فبعد حرب الخليج، وضعت عملية تأمين السلامة المعروفة ببروفايد كونفورت حداً لسيل اللاجئين الأكراد إلى تركيا مشجعة عودتهم إلى شمال العراق، كما أفسحت المجال أمام حق التدخل الانسانوي وعمليات الأمم المتحدة الكبرى في الصومال وهاييتي ورواندا والبوسنة وتيمور الشرقية وسيراليون.
أخيراً، ساهم النظام الدولي الجديد في تحديد مجموعة من المعايير تضع القوة تحت تصرّف القانون القائم على احترام الانسان والدفاع عن الحريات ومكافحة الفقر أو الأوبئة، وكلها قيم يحميها القانون.
بيد أن التوازن هذا بين القانون والقوة لم يأت بحل لجميع المشكلات الأمنية. بداية، لم يستجب لمسألة نزع سلاح العراق سوى بفرض سياسة عقوبات تضرّر منها السكان العراقيون أولاً. ثمّ انّه لم يفتح آفاقاً لحل أزمات إقليمية تهدّد استقرار المعمورة. فالشرق الأوسط لا يزال حبيس منطق العنف والثأر، كما أن الخلافات في قبرص والصحراء الغربية وأزمة كشمير لم تحل بعد. ففي هذه المناطق، اصطدمت وعود النظام العالمي الجديد بتعقد العلاقات الدينية والاثنية وعبء التاريخ ومعطيات الجغرافيا.
إضافة إلى ذلك، إن دعم المجتمع الدولي للنظام تضاءل تدريجاً. وتطلبت النتائج المحققة موارد هائلة من الأمم المتحدة. نذكر على سبيل المثال حال سيراليون وهي دولة تعد 4 ملايين نسمة ومساحتها 71000كلم2. أرسلت الأمم المتحدة 16000جندي للمحافظة على الأمن فيها.
وبدأت تظهر تدريجاً حدود مفهوم حق التدخل الانسانوي. فإذا كان يسمح بالتدخل في حال وقوع كارثة انسانوية وشيكة، فإنه يثير قلق الدول الناشئة ويتهم بالانحياز. فلم التدخل هنا بدلاً من هناك؟ من يتخذ قرار التدخل وباسم أي شرعية؟
يعكس مثال كوسوفو تعقّد هذه المسائل. ففي هذه الأزمة، واجهنا حقائق صعبة، فلأول مرة، أثار مفهوم حق التدخل الانسانوي أسئلة وكان بعض الدول في الجنوب يخشى أن يسمح للديموقراطيات الغربية أن تتعدى على سيادته، بلا مسوّغ قانوني.
وأثار مثال كوسوفو في هذه الديموقراطيات نفسها العديد من الانتقادات، فاللجوء المسبق للقوة وتدخل الزعماء في سير العمليات العسكرية لم يشكلا حلاً مرضياً.
في النهاية، كانت عملية كوسوفو شرعية وناجحة سياسياً وإن كانت مصدر انشقاقات: فالبعض رأى فيها مثالاً لقانون عرفي للتدخل الانسانوي من دون توكيل من الأمم المتحدة. أما نحن فاعتبرناها استثناء، يبرّر بدعم واسع وخطر وقوع كارثة انسانية وشيكة في آن معاً.
وجاءت أحداث الحادي عشر من أيلول 2001سبتمبر لتضع حداً لمرحلة ارساء نظام عالمي جديد.
بدءاً، دخل العالم في زمن الإرهاب الشامل وأدركنا أن المنظمات الارهابية لن تتردد في استعمال أي وسيلة لنشر حقدها ونقمتها. ثم ان العالم فتح المجال أمام انقلاب حقيقي لمفهوم القوة: فالضعيف يستطيع أن يزعزع القوي، والايديولوجيات تهزّئ الحقوق الأساسية، واللجوء إلى القوة لم يعد جواباً كافياً. فحين يقترن السكين بالتكنولوجيات الجديدة يحتال على القواعد التقليدية للقوة.
أخيراً، كشف العالم ضعف الولايات المتحدة واشتدّ لديها الشعور بالسخط والظلم، ما حدا بها إلى تعديل رؤيتها للعالم، فأميركا أصيبت في الصميم وركّزت أولوياتها في مصالحها الأمنية الخاصة وسلامة أراضيها وسكانها.
وفي زمن التقلبات هذا، كان لا بدّ من إقامة علاقة ثقة وتجاور متجددة مع الولايات المتحدة. رحّبت فرنسا بالفكرة إذ أدركت الصدمة العنيفة التي وقع ضحيتها هذا البلد وأثبتت تضامنها التامّ مع الأميركيين بعد أحداث 11 أيلول، وشاطرت عزم الولايات المتحدة على محاربة الارهاب أينما وجد. وخير دليل الى ذلك، تدخلنا العسكري في أفغانستان وتعاوننا في مجال الاستخبارات. أخيراً تريد فرنسا أن تواصل أعمالها بمشاركة الولايات المتحدة لتستجيب التحديات الكبرى ذات الصلة بانتشار أسلحة الدمار الشامل، لا سيما في كوريا الشمالية.
ونظراً الى أن الولايات المتحدة وفرنسا شيدا وطنيهما على قاعدة من القيم المشتركة، فإنهما مدعوان لاستئناف تعاون وثيق وتعاضدي. إننا مدينون بذلك للصداقة القائمة بين شعبينا وللنظام الدولي الذي نرغب في إرسائه معاً.
وخلال الأشهر الأخيرة، سأل البعض عن حوافز فرنسا في حل المسألة العراقية. أريد أن أقول هنا وبكل شدة أن خياراتنا لم تكن موجهة ضد بلد أو آخر، إنما قمنا بها باسم فكرتنا للمسؤولية الجماعية ورؤيتنا للعالم.
لنقس بالفعل أهمية الرهانات. فالمسألة تتعلق اليوم بمعرفة ما هي القواعد التي ستحدّد قواعد العيش معاً. الاجماع واحترام القانون وحدهما يتيحان للقوة شرعيتها الضرورية. وإذا خرجنا من هذه الحدود فإن اللجوء إلى القوة قد يصبح عاملاً لعدم الاستقرار.
كما يتعيّن معرفة كيف سندير الأزمات المتعدّدة. فحال العراق ليست معزولة: في كوريا الشمالية وفي دول أخرى، ثمة تهديدات بانتشار أسلحة الدمار الشامل. لذا لا بدّ من أن نحتاط بالوسائل الناجعة للاستجابة لها. وبدأنا معاً تحديد طريقة لنزع السلاح أعطت نتائج إيجابية.
أخيراً، نحن قلقون جداً: إذ كيف لا نرى خطر عدم التفاهم المتنامي بين الشعوب الذي قد يؤدي إلى التصادم بين الثقافات؟ أليس هذا التحدي الكبير لزمننا؟ وهل يمكن اعتباره حتمياً؟ تقع على عاتقنا مسؤولية تقديم الحلول الضرورية بتغذية روح التحاور والاحترام بين الشعوب.
وفي هذا الاطار، تحققنا من أمرين في القرار 1441: أوّلاً، لا يثبت المجتمع الدولي فاعليته إلا إذا كان متحداً. ثانياً، لا يحظى المجتمع الدولي بشرعية حقيقية إلا إذا مارس كل مسؤولياته.
كان مبدأ المسؤولية ينص أولاً على أن يسعى المجلس باستمرار إلى تحسين أداة عمليات التفتيش بغية تطبيق القرار 1441 كاملاً. كنا اقترحنا تعزيز إمكانات المفتشين وجداول زمنية صارمة لكل مجال تفتيش وتبني برنامج عمل يرتكز على المهمات الأولوية وقصر مدة تسليم تقرير المفتشين.
فضلاً عن ذلك، كان مبدأ المسؤولية هذا يقضي أن تقرّر الدول الأعضاء في مجلس الأمن ما هي الأعمال التي ستقوم بها معاً وكيف تتحكم بالعملية في كل مرحلة. ولذا لم يكن في امكان مجلس الأمن أن يقبل بالانذار الذي يتيح اللجوء الفوري للقوة. إذ إنه يتعدى الاطار الذي حدده بالاجماع القرار 1441 ويبتعد عن الروح نفسها التي سادت بيننا. فلا ينبغي أن نبحث بعيداً عن أسباب العراقيل التي شهدناها في مجلس الأمن، أثناء المفاوضات الأخيرة. وفي هذا السياق، الكل يستطيع أن يتحقق من أن فرنسا كانت تسعى دوماً إلى البحث عن تسوية، وحرصت دوماً على التمسك بحرية خياراتها، لا سيّما اللجوء إلى القوة في حال أخفقت عمليات التفتيش.
أما موقف مجلس الأمن الذي لم يتغيّر ولو بصوت واحد فيمكن تفسيره بالقول ان غالبية من الدول كانت مقتنعة بأننا لم نطبق الحلول السلمية تطبيقاً كاملاً كما أن الانطباع ساد لديها بأن الجدول العسكري كان يزيل، انطلاقاً من بداية هذه السنة، الجدول الديبلوماسي، إضافة إلى أن الشعور بإعادة النظر في مبدأ عمليات التفتيش بدأ يسود. وأخيراً الانتقال التدريجي من هدف نزع سلاح العراق إلى تغيير النظام بل إلى إعادة ترتيب الأوضاع في الشرق الأوسط، قد أسهم في زيادة أسباب عدم التفاهم.
ثمّة رؤيتان للعالم تتجابهان من خلال الأزمة العراقية تمثلان علاقة مختلفة بين القانون والقوة، وبين الشرعية الدولية والدفاع عن المصالح الأمنية الوطنية.
تجعلنا إحدى أطروحاتها نعتقد بأن الديموقراطية يمكن فرضها من الخارج.
وعليه، فإن الثقة في القانون قد تكون مجرد وهم، وأدوات القانون الدولي إكراهات أكثر من كونها وسائل لضمان الأمن الدولي، حتى أن البعض ذهب إلى القول إن الولايات المتحدة قد تتفرد بتحمل مسؤولياتها وحدها من خلال تأكيد قوتها ونفوذها، في الوقت الذي يمكن نسبة موقف أوروبا إلى ضعفها. أخيراً، قد تسمح بعض الحكومات لنفسها أن توجّه الضربة الأولى، إزاء تصاعد التهديدات.
إن حدود اللجوء إلى القوة في العراق والآفاق الضبابية للمستقبل السياسي لهذا البلد يثيران أسئلة عدة حول هذه التحليلات.
فالعالم المعاصر معقد ولم يعد يختزل في شبكة من التحالفات، كما كان الأمر في القرن التاسع عشر أو خلال الحرب الباردة. إن واقع عالمنا اليوم يتمثل في تضافر تهديدات جديدة هي الارهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل وطابع الأزمات الاقليمية المتقلّب للغاية وأهمية الايديولوجيات المتطرفة والأصولية التي تنشر رسالتها في أطراف المعمورة. إضافة إلى خطر تحول الجريمة المنظمة إلى أداة لتمويل هذه التهديدات وتحقيقها على أرض الواقع. ولذا، فإن معالجة هذا الوضع بالقوة لن تحل المشكلات الأساسية بل قد تخلق تصدعات جديدة.
نشاطر البريطانيين والأميركيين إيمانهما بالديموقراطية. فبلداننا هي مصدر الثورة الديموقراطية بفضل الميثاق الأساسي وإعلان 1789 والدستور الأميركي. ونحن واثقون من أن الديموقراطية تتطلب عزماً وقناعة وتمرّناً طويلاً.
كما أننا لا نرفض استعمال القوة، لكننا نريد أن نحذّر من مخاطر تحويل استعمال القوة الوقائية إلى عقيدة: هل نصبح قدوة لبقية دول العالم؟ وأي شرعية نعطيها لعملنا؟ وما هو الحد الذي نضعه لممارسة قوتنا؟ فبمجرّد قبولنا بهذه العقيدة قد ندخل خطر البلبلة وعدم الاستقرار الدائمين في العالم فتفلت منا الأمور ونستمر في الهروب إلى الأمام. ولذا، حذار من فتح القمقم.
وعليه، كيف التصرف؟
تعتمد رؤيتنا الخاصة على شروط عدة.
الوحدة أوّلا: فهي ضرورة أساسية إزاء تعقد العالم ولا يمكننا استئصال الارهاب من دون تعزيز تعاوننا في المجال القضائي والاستخباراتي والأمني. ولن نحل مسألة انتشار أسلحة الدمار الشامل إلا إذا حددنا معاً طريقة ناجعة. فما شرعنا القيام به في العراق ينبغي مواصلته ولن نقضي على الأزمات الاقليمية إلا بفتح حوار بنّاء مع الأطراف المعنيّة كافة.
المسؤولية ثانياً: فإن الدول كلها مسؤولة عن تعزيز الأمن والاستقرار في العالم. ليست القوة امتياز البعض والقانون حجة الآخرين. فالقانون يلزمنا جميعاً.
الشرعية ثالثاً: إنها مفتاح العمل الدولي الفاعل. فإذا أردنا تقديم حلول بمستوى الرهانات المعاصرة واتخاذ الاجراءات الضرورية، بما في ذلك اللجوء إلى القوة، فعلينا القيام بذلك باسم قرار جماعي.
وفضلاً لمطالبنا هذه، لا بد من أن نسلك من جديد طريق الوحدة الأوروبية ونعيد تأكيد تعاضدنا مع الحلف الأطلسي ونرسي نظاماً عالمياً هزّته الأزمة العراقية.
هذا الهدف الأسمى يخص الأوروبيين كافة: دول الاتحاد الأوروبي الخمس عشرة وأعضاؤها الجدد. غير أنه يطرح تحدياً خاصاً لفرنسا والمملكة البريطانية اللتين تتمتعان بعلاقات مختلفة مع الولايات المتحدة، لأسباب تاريخية. مع ذلك، فكل منهما حريص على جودة العلاقات الأطلسية وقوتها، مقتنعاً بأنها تسهم في المحافظة على استقرار العالم.
وبالتالي، لا وجود لخيار القوة من جهة وخيار القانون من جهة أخرى. ينبغي أن نضع القوة في خدمة القانون حتى يضبطها ونقلب بذلك اطروحة باسكال القائلة: "إن استحالة جعل العدالة قوية أدت بنا إلى جعل القوة عادلة".
إن أولوية القانون لا يعني اعترافاً بالضعف ولا عامل عجز. إنها مطلب أخلاقي وسياسي وشرط من شروط العدالة والفاعلية، فالعدل وحده يضمن أمناً دائماً.
وعلى عكس ذلك، فإذا تبيّن أن النظام الدولي غير عادل وإذا تغلّبت القوة على القانون ولم يؤخذ رأي الشعوب في الاعتبار، فقد يؤدي ذلك إلى تعزيز أسباب النقمة والبلبلة وبرامج انتشار أسلحة الدمار الشامل وصراع الدول والحقد الايديولوجي تجاه الديموقراطيات الغربية.
ولذا ينبغي تحديد أهداف مشتركة.
أولاً، لا بدّ من أن نواصل نزع سلاح العراق حتى النهاية. هذا الهدف الذي اتفق عليه المجتمع الدولي ينبغي مواصلته بمساعدة المفتشين وبقيادة الأمم المتحدة التي ينبغي كذلك أن تكلّف إعادة تشييد العراق وإدارته. وتتوقف شرعية عملنا على ذلك إذ لا بد من أن نتعاضد ونتساعد لتحقيق السلام في منطقة معروفة بعدم الاستقرار وبالتصدعات العميقة.
ولا بدّ من أن تظل الحرب على الارهاب أولوية من أولوياتنا وأن نواصل تعاوننا ونعزّز تبادلنا للمعلومات الاستخبارية ونحدّد آليات جديدة لمكافحة تمويل الشبكات الارهابية.
تظل شراكتنا مع الولايات المتحدة والمملكة البريطانية في مجال القضاء على انتشار أسلحة الدمار الشامل منتظمة ومتواصلة. ينبغي الآن أن تكون مكملة للأعمال التي سنقوم بها حول هذا الموضوع في الأمم المتحدة، في مناسبة مؤتمر القمة لرؤساء الدول والحكومات التي اقترحت عقده فرنسا. نقترح كذلك أن تتشاور الدول الأوروبية لوضع تحليل مشترك لمخاطر انتشار الأسلحة بغية تقويم الحلول للتصدي لها. لقد بدأنا في تحديد آليات لنزع السلاح تستند إلى القانون والقوة، وقد يجسّد إنشاء فريق من مفتشي الأمم المتحدة طموحاتنا هذه.
أخيراً، تقضي هذه التحديات أن نتآلف ونوحّد جهودنا لايجاد حل سلمي لأزمة الشرق الأوسط بصفتها أزمة أساسية يغذيها شعور عميق بالظلم. ولن نتمكن من تشييد سلام دائم إذا لم يستند إلى العدل، وهو عدل يستجيب مطالب الشعب الفلسطيني ويضمن أمن إسرائيل، ويعزّز قوّة القانون والسلام.
ولا يتسنى لنا بلوغ هذه الأهداف إلا بدفع من الأمم المتحدة، ومع ذلك، يمكننا تطبيقها في إطار أقطاب إقليمية كبرى.
وعليه، وحتى يكون العالم الجديد مستقراً، ينبغي أن يستند إلى أقطاب مختلفة ومنظمة للتصدي للتهديدات الحالية شرط ألا تكون هذه الأقطاب متنافسة بل متكاملة وبمثابة ركائز نبني عليها مجتمعاً دولياً متعاضداً وموحّداً، إزاء التحديات الجديدة.
وهكذا، لا بدّ من أن تستجيب رغبة الولايات المتحدة في انتهاج سياسة خارجية وأمنية مشتركة لهذا المطلب. إنها تعبّر عن إرادة حقيقية لابراز هوية أوروبية حقيقية تتطلع إليها شعوب قارتنا. نحن نرغب في سلوك هذه الطريق بحزم وبدعم المملكة البريطانية ومشاركتها. أما في مجال الدفاع حيث قطعنا شوطاً بعيداً مع المملكة في ملف مقدونيا، فلا بد من مواصلة مشاريعنا والتفكير في إبدال قوى الحلف الأطلسي في البوسنة وإنشاء وكالة أوروبية للتسلح. إذ ان بروز أوروبا قوية يخدم مصالح الجميع ويعزّز الأمن في العالم.
ينبغي إذاً أن تتخطى فرنسا والمملكة المتحدة المصاعب الحالية وتظلا متحدتين.
إنني مقتنع بأن ما يجمعنا يمس هوية شعوبنا فنحن نتقاسم مفهوم الاستقلال نفسه ونعي تماماً دور بلدينا في العالم ولا أنسى أنه في اللحظات العصيبة لتاريخنا، استقبلت المملكة البريطانية الرجل الذي حمل روح المقاومة لبلدنا بينما كان ونستون تشرشل والشعب البريطاني يجسّدان أمل الشعوب الحرّة.
ونظراً لأواصر الصداقة والاحترام المتبادل القائمة بين الشعبين، فإن فرنسا والمملكة البريطانية ترغبان في الإسهام بدور فاعل في أوروبا لبناء عالم يستجيب طموحات العدل والسلام التي تتطلع إليها الشعوب.
* وزير الخارجية الفرنسي. والنص ترجمة لكلمة ألقاها في لندن يوم الجمعة الماضي، كضيف يلقي الكلمة السنوية في معهد "الاستير بوشان".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.