اذاً، تمكنت القوات المسلحة الأميركية - بعد نشر الدمار والموت في انحاء العراق وبكلفة بلايين الدولارات من أموال دافع الضرائب الأميركي - من اسقاط نظام صدام حسين المكروه على أوسع نطاق والمهلهل عسكرياً. وماذا الآن؟ هل جاء الانتصار الأميركي بما يكفي من "الصدمة والترويع" للعراقيين وغيرهم من سكان الشرق الأوسط لكي ينصاعوا بهدوء لمخططات البنتاغون لمنطقتهم؟ أم هل أن الامبراطورية الأميركية، بخطوط امداداتها التي ستبقى مكشوفة، وعلاقاتها الدولية التي أصبحت لا تقل انكشافاً، توشك ان تتجاوز امكاناتها؟ لا يمكن بالطبع تقديم جواب حاسم عن السؤالين بعد. لكن الواضح من الآن ان لا احتمال يذكر لانصياع العراقيين أو غيرهم للمخططات الأميركية. فها هي الخطوات الأولى من "المندوب السامي" زالماي خليل زاد لاصطناع قيادة عراقية موالية للأميركيين ما يمكن اعتباره النسخة العراقية ل"لعبة بشير جميل" تواجه نكسات خطيرة. ربما كانت ضراوة الهجوم الأميركي قد "صدمت" العراقيين، لكن سلوكهم لا يشي بالكثير من "الترويع". وسيكون لفشل الأميركيين في تنصيب قيادة مشابهة ل"بشير الجميل" نتائج استراتيجية بالغة الخطر. ومن بين أهم هذه ان القوات الأميركية ستضطر الى البقاء في العراق مرحلة أطول بكثير مما خطط له البنتاغون. وسيكون هذا وضعاً مزعجاً للعراقيين وجيرانهم، لكنه سيكون في الوقت نفسه، وبشكل متزايد، مزعجاً سياسياً لادارة جورج بوش أيضاً. من الأشياء التي يمكن ملاحظتها من المقابلات الاعلامية مع الجنود الأميركيين مباشرة بعد دخولهم بغداد أن لسان حال غالبيتهم كان: "نعم، أنا سعيد بالانتصار. لكن اريد العودة سريعاً الى الوطن". انه موقف مفهوم، لأن دعاة الحرب في البنتاغون سوقوها للرأي العام الأميركي ولأفراد القوات المسحلة على انها ستكون "عملية جراحية" بسيطة تنتهي بسرعة. أي انها بالتأكيد لن تكون فيتنام جديدة. لكن اذا لم يستطع البنتاغون تشكيل حكومة من طراز "بشير الجميل" بسرعة فإن أولئك الجنود سيبقون في شوارع بغداد وغيرها مدة أطول بكثير مما تتوقعوا، وأن العداء الذي بدأوا يواجهونه من قبل بعض الأوساط العراقية سيتوسع ويشتد. والأمل ان الكثيرين من الجنود الأميركيين، الذين سيواجهون لهيب الصيف وحرارة هذا العداء خلال الشهور المقبلة سيدركون شيئاً فشيئاً أن قيادتهم السياسية قد ضللتهم في شكل خطير. واذا ما تيقنوا من خداعهم من جانب بوش ورامسفيلد وأمثالهم، وان الادارة عرضتهم وتعرضهم الى الخطر دون ضرورة وبدون شعور بالمسؤولية، فإن هذا سيعطي دفعاً كبيراً للحركات الأميركية المعارضة للحرب، خصوصاً عندما يعود هؤلاء الجنود الى الولاياتالمتحدة. العادة هي ان دورات الخدمة الميدانية لا تستغرق اكثر من ستة شهور. ان لكل جندي أو بحّار من مئات الوف العائدين اسرته واصدقاءه والمتعاطفين معه. ولنا أن نتذكر من أيام حرب فيتنام أن الجنود العائدين من تلك الحرب، بكل ما شعروا به من الاحباط والمرارة تجاه ما اجبروا على القيام به، شكلوا عنصراً أساسياً في نمو حركة المعارضة للحرب. ولنا ان نتوقع تأثيراً مشابهاً هذه المرة، لكن مع فارق مهم، وهو ان مشاعر المرارة والاحباط ستكون أقوى بكثير من السابق، بالضبط لأن القيادة السياسية نجحت في "تسويق" الحرب قبل قوعها باعتبارها ستكون سريعة وسهلة وبطولية. *** أقيم في الولاياتالمتحدة منذ أكثر من عشرين سنة، ولا أزال أرى دوماً ما يدل الى فجاجة الكثير من الثقافة السياسة العامة في هذا البلد. ولا يزال لدى الكثيرين من الأميركيين، حتى من بين النخب السياسية، ذلك الافتتان الطفولي بالابتكارات التكنولوجية والايمان الساذج بقدرتها على تقديم "الحلول" في كل المجالات. وكان هناك في الستينات وزير دفاع أميركي جاء الى السلطة عن طريق المراتب العليا من دوائر الأعمال، بايمان أعمى بأن التفوق التكنولوجي بمفرده، ومن دون أي استراتيجية سياسية مناسبة، سيتكفل بحل المشكلة الدولية الرئيسية التي واجهتها أميركا وقتها. اسم ذلك الوزير روبرت مكنمارا. والمشكلة كانت فيتنام. وعلى رغم أن "الحلول" التكنولوجية لتلك المشكلة لم تفعل سوى اغراق أميركا أكثر فأكثر في ذلك المستنقع فإنه لم يفهم تلك الحقيقة إلا بعد سنين طويلة. كان مكنمارا صغير السن نسبياً في الستينات. وعاد الى المشهد بعد عقود ليوحي بأنه نادم على خطأه في فيتنام وقتها ويريد التكفير بشكل أو آخر. انني لا أتذكر انه اعتذر في شكل مباشر عن الدمار الذي الحقته سياساته بفيتنام وعن عشرات الألوف من الأسر الأميركية التي فقدت أبناءها. مع ذلك، كما قلت، فقد تصرف في حالات كثيرة عندما أصبح رئيساً للبنك الدولي وكأنه يريد للعالم ان يكون مكاناً أفضل، ربما في محاولة منه للتكفير عن اخطاء في الماضي لم يشأ تحديدها. والآن نجد أمامنا دونالد رامسفيلد. وهو بالتأكيد ليس صغير السن، لكنه على الاعتقاد المهووس نفسه الذي كان لمكنمارا في الستينات في امكان حل المشاكل عن طريق التكنولوجيا، بعيداً عن الاستراتيجيات السياسية الصحيحة. وها هو رامسفيلد قد تمكن، معتمداً على التكنولوجيا العسكرية الأميركية المتفوقة، من ايصال القوات الأميركية الى اعماق العراق. لكنه لا يفهم حتى الآن كما يبدو ان ليس هناك من "حل" تكنولوجي للمهمة التالية، أي اخراج تلك القوات من العراق. هذه المهمة تتطلب استراتيجية سياسية صحيحة، فيما لا يبدو أنه قد بدأ حتى بالتفكير في تلك الاستراتيجية عدا تمسكه بذلك الأمل الواهم في قدرة أحمد الجلبي على حل مشاكل العراق السياسية نيابة عن أميركا. والواقع ان اعتماد رامسفيلد الساذج على التكنولوجيا لم يقده الى اغفال تناول المشاكل السياسية التي يواجهها الأميركيون في العراق، بل انه ساهم في مفاقمة تلك المشاكل، وذلك لسبببن. الأول أن اصرار الأميركيين على البرهنة على تفوقهم التكنولوجي الساحق جعلهم يستخدمون قنابل وصواريخ أشد تدميراً من المطلوب. لكن أنظمة التسديد لهذه لم ولن تبلغ حد الكمال، ومن هنا فقد أدى استعمالها الى الكثير من ما يسمونه "الأضرار الجانبية"، ذلك التعبير الملطف عن الخسائر بين المدنيين. ولا شك أن لهذه مستتبعات سياسية مهمة. ثانياً، "الثورة في الشؤون العسكرية" التي نفذها رامسفيلد وسط الكثير من التطبيل أوصلت القوات الأميركية الى بغداد والنجف وغيرها من المراكز السكانية بأسرع بكثير مما كان معتادا. وكانت النتيجة مشاكل سياسية كبيرة في تلك المراكز، لأن قوات تتقدم بهذه السرعة لا تستطيع اصطحاب القدرات اللازمة على احكام السيطرة على المناطق المحتلة. بل انها عندما احتلت بغداد لم تمتلك خطة، ناهيك عن القدرة، لتأمين مواقع مهمة مثل المستشفيات أو المتحف الوطني هناك. وكان لهذا الفشل كلفته السياسية السريعة. *** المحزن عند النظر الى المشهد الحالي ليس فقط آلام العراقيين في هذه الحرب البشعة التي كان يمكن تجنبها، بل أيضاً، وبالتأكيد تقريباً عندما ننظر الى المستقبل، المزيد من الالام لهم - وللمجتمع الأميركي - كنتجية مباشرة لقرار الرئيس بوش شن الحرب. وكما نعلم فان فرض المعاناة على الناس يدفعهم في أحيان كثيرة الى الرد عليها بالعنف. انها من طبائع البشر التي لا يمكن انكارها. وربما سنشهد مستقبلاً أعمال عنف رهيبة من قبل العراقيين أو جنود أميركا الخائفين والمضطربين في العراق. لكن المؤكد أن ليس للأميركيين حق البقاء في العراق. وربما يرى المخططون العسكريون أن من الصعب سحب القوات سريعا واعادتها الى الوطن. وربما سيدعون أن ذلك سيوجه ضربة هائلة الى صدقية أميركا على الصعيد العالمي، ويترك العراق نهبا للفوضى والمزيد من الدمار. انه موقف قد يكون صحيحاً. لكن بقاء أميركا في العراق لن يؤدى إلا الى مفاقمة وضع العراق الداخلي، وكذلك وضع الولاياتالمتحدة. السيد دونالد رامسفيلد: اتصلْ بمكنمارا وكلّمه طويلاً. في أقرب فرصة. * كاتبة متخصصة في شؤون الشرق الاوسط.