أمير الشرقية يرعى تخريج الدفعة ال 46 من جامعة الملك فيصل    "البحر الأحمر الدولية" تكشف عن مستعمرة مرجانية عمرها 800 عام    استشهاد 18 فلسطينيًا    الذهب يهبط بأكثر من 1%    الصين تطلق بنجاح قمرًا اصطناعيًا جديدًا لنقل البيانات    أمير القصيم: الخريجون ثروة الوطن الحقيقية لتحقيق التنمية    المملكة.. طموح لا يعرف المستحيل    وزير الاقتصاد: المملكة الأولى عربيا في الأداء الإحصائي    1000 معملٍ لتطوير الابتكار والتميز النوعي في السعودية    بتوجيه من ولي العهد.. إطلاق اسم "مطلب النفيسة" على أحد شوارع الرياض    السعودية تمتلك تجارب رائدة في تعزيز ممارسات الصيد    اكسر حواجز الواقع و اصفع الفشل بالإصرار    محادثات القاهرة تتعثر.. ولا ضوء في نهاية النفق.. الاحتلال يصعد في غزة ويطارد حماس عبر «مناطق عازلة»    دمشق ل"قسد": وحدة سوريا خط أحمر    هنأت رؤساء توغو وسيراليون وجنوب أفريقيا.. القيادة تعزي الرئيس الإيراني في ضحايا الانفجار    عبر السد بثلاثية مقابل هدفين.. كاواساكي يواجه النصر في نصف نهائي النخبة الآسيوية    "الانضباط" تجدد رفض احتجاج الوحدة ضد النصر    مدير الجوازات يستعرض خطة أعمال موسم الحج    صقر في القفص الذهبي    أبناء زين العابدين يكرمون كشافة شباب مكة    تنفذها الإدارة العامة للتوجيه والإرشاد بوزارة الداخلية.. أمير الرياض: الحملة الوطنية.. "الولاء والانتماء" تعزز الأمن وتحصن الشباب    وزير الإعلام يستهل مبادرة "نبض الإعلام" باللقاء الأول مع صنَّاع البودكاست    معرض"ذاكرة الطين" للتشكيلية فاطمة النمر    كيف تحل مشاكلك الزوجيه ؟    أكدت أنه يتفق والمصلحة المطلوبة شرعًا.." كبار العلماء": لا يجوز الذهاب للحج دون أخذ تصريح    كبار العلماء: لا يجوز الحج من دون تصريح    أمير الشرقية يبحث تطورات ومستجدات البيئة الاستثمارية    مقتل شخصين في ضربات أميركية على صنعاء    Adobe تطلق نموذج Al للصور    مؤشر نسبة العاملين من ذوي الإعاقة يقترب من تحقيق مستهدف رؤية 2030    «هيئة الشورى» تعقد اجتماعها الثامن    ولي عهد لوكسمبورج يشكر المملكة لدعمها مبادرة «رسل السلام»    حل 40 ألف قضية أسرية قبل وصولها للمحاكم    وفاة عميد أسرة آل أبوهليل    الملك وولي العهد يُعزيان الرئيس الإيراني في ضحايا انفجار ميناء رجائي    ورش ومحاضرات توعوية ضمن فعاليات أسبوع البيئة بالجوف    رؤية 2030 تقفز بحجم الاقتصاد الرقمي إلى 495 مليار دولار    جلوي بن مساعد يهنئ جامعة نجران    صناعة الحوار    تشكيليات يرسمن أصالة الأحساء    ليلة استثنائية    فيصل بن مشعل يكرم الفائزين في بطولة القصيم لجمال الخيل العربية الأصيلة    أخضر الشابات يترقب قرعة تصفيات كأس آسيا تحت 20 عاماً    النصر والعلا إلى نهائي الدوري الممتاز لكرة قدم الصالات    ملتقى «توطين وظيفة مرشد حافلة» لخدمة ضيوف الرحمن    «جمعية تجهيز» تُخصص رقماً مجانياً للتواصل    محمد بن ناصر: رياضة المشي لها دورها في الوقاية من الأمراض وتعزيز الصحة    طلاء سحري يقتل البكتيريا والفيروسات    ارتفاع حرارة الأطفال بلا سبب    الميتفورمين يخفف آلام التهاب مفاصل الركبة    2 مليار إيرادات تطبيقات نقل الركاب    مواعيد مباريات نصف نهائي دوري أبطال أسيا    «مجمع الملك سلمان» يُشارك في معرض تونس الدولي للكتاب    تهنئة 3 دول بمناسبتي ذكرى الاستقلال ويوم الحرية    ‏ #صامطة تتألق بحدث رياضي ملهم: " #امش_30" يجمع الأهالي لتعزيز الحياة الصحية    ولي العهد يوجه بإطلاق اسم الدكتور مطلب النفيسة على أحد شوارع الرياض    أمير جازان يستقبل مدير فرع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمنطقة    حسين الشيخ نائبا للرئيس الفلسطيني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحرب على العراق تطرح سؤالاً حول الثقافة في كردستان . الأدب الكردي ضحية حروب ... وسوء فهم تاريخي
نشر في الحياة يوم 26 - 04 - 2003

ماذا يعرف القراء العرب عن الثقافة الكردية؟ هذا السؤال لا بدّ من طرحه الآن، في مرحلة تحتل القضية الكردية واجهة السجال السياسي والتاريخي، عقب سقوط نظام "البعث" في العراق وصعود حركة كرديّة تنادي بوطن وأرض وحق!
هنا مقالان يرسمان أحوال الثقافة الكردية والأدب الكردي اللذين ازدهرا في "الوطن" والشتات!
اشتكى الشاعر العراقي، الراحل، بلند الحيدري، مرة، من مأزق وجد نفسه فيه على الدوام: الشعراء العراقيون، العرب، يرمقونه بسخط صامت لكونه كردياً، والشعراء الأكراد يهربون منه لكونه يكتب بالعربية. وسواء أكان هذا وقع بالفعل أو أنه مجرد دعابة مريرة، فإنه يفصح عن ثقل ظلال استمرت تخيم على مشهد العلاقة التي تجمع أدباء العراق، من العرب والأكراد، بعضهم ببعض. كانت تلك العلاقة علامة على حذر متبادل وسوء ظن دفين. ولم يكن ذلك أكثر من امتداد لسوء الظن العام الذي تكرس منذ اليوم الأول لقيام الكيان العراقي من جسمين، هما العراق وكردستان، جمعهما المنتدب البريطاني ليؤلف منهما الدولة العراقية الحديثة. وآية ذلك أن لجام الحكم وضع في يد العرب من دون الأكراد. وحين أفصح هؤلاء عن الرغبة في تقاسم الأشياء بالعدل والقسطاس المبين رسموا في هيئة عصاة متمردين.
كان النص الأدبي بؤرة استقبال لسوء الفهم هذا. لم يعمل أحد على تبديده بالدعوة الى تبديد أسبابه. الاجتماع القسري، على صعيد بناء الدولة، أضحى ممراً إلى انفصال نفسي على مستوى الرغبات والأحلام والرؤى. كان من الضروري لجم هذا الانفصال. كان ينبغي إنشاء التحام يتحقق في قناعة متبادلة كأن يتحول التنابذ الحزين إلى لحظة تلاق سعيد. غير أن أحداً لم يمعن النظر في هذا الاتجاه. وأخذ كل طرف يشد الرحال في الجهة التي يأمن إليها أو يتوهم ذلك. وبدا كما لو أن الواحد يسعى في إزاحة الآخر.
انتصرت السياسة على الأدب. وانكفأ أديب كل طرف في أحضان جماعته. والحواجز التي انتصبت في أرض الواقع انتقلت إلى أرض الأدب. وبدأت النصوص الكتابية تمتلئ بالجدران. ظهر الأديب من كل جهة وكأنه الناطق باسم جماعته وحامل رايتها فلا شأن له بالآخر وبلغته وثقافته وهواجسه.
هكذا انشغل الكثير من الكتاب العراقيين العرب، مثلاً، بعروبيتهم لتحميهم من مشاغل التنوع اللغوي والثقافي في العراق. وارتسم العراق لهم حقلاً عربياً نقياً من الشوائب وامتداداً لأرض العرب الواسعة. لم يعبأ أحد بما يختزنه الجزء الآخر من جسم العراق: الجزء الكردي. ظل هذا نائياً ملفوفاً بالغرابة. لم يؤلف هذا الجزء لهم زاداً روحياً أو فكرياً ولم يدخل في وجدانهم ومشاعرهم. لقد بقى هامشاً معزولاً لا حضور له. لم يكن التاريخ يذهب ليشمل ذلك الجزء وكانت الجغرافيا النصية تتوقف هناك ولا تمضي إليه.
تغنى الشعراء العراقيون العرب بالعراق عربياً خالصاً واستلهموا من تاريخه القديم ما يعزز هذا الظن ويذهب إليه. والشاعر السياب، مثلاً، استحضر عشتار وتموز وأدونيس، قرائن على أصالة الفكرة العربية بالاطمئنان إلى العرق السامي الممتد من البابليين والآشوريين. مثله فعل آخرون. ويمضي مظفر النواب، مثلاً أيضاً، ليطرح مشاغله ملفوفة بنسيج عربي صارخ. عراقيته تمتلئ بمقاصد ورؤية عروبية واضحة. وهو يذهب، في الزمان والمكان، نحو العرب من دون الآخرين فيحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم ويعدد انتصاراتهم وهزائمهم وينشد لماضيهم وباديتهم وأنهارهم وسهولهم، يحثهم على الفعل ويستنهضهم لطرد الكسل والسكون. لا حضور قط لأي مفصل كردي في كتابته. في ديوانه الصغير المسمى "وتريات ليلية" يطغى الحزن على الكلمات من حال العرب، "وارثي جبهة اليرموك" ومن الظلم الذي يلقاه أهل الأهواز على يد الفرس الذين احتلوا عربستان، مع أن "النخلة أرض عربية". ما من كلمة واحدة عن الأكراد وما يلقونه من مظالم، وما من كلمة تذهب الى القول ان الجبل أرض كردية ولو على سبيل الطباق. لم يذهب أحد صوب الأساطير الكردية ليستدرجها إلى نصه. كان من شأن ذلك أن يشوه الصورة ويعكر نقاءها.
بدا الشاعر الكردي وكأنه ماض إلى معركة صامتة يعرف أن موازينها مختلة لغير مصلحته. وفي وجه استعلاء عنصري عنيف ما برح يحاصره، أخذ الكاتب الكردي يستدفئ بأحضان الجماعة ويستقوي بها. كان ذلك خضوعاً لمنطق التنابذ والإقصاء المتبادل سواء برغبة منه أو من دونها. لم يكن ثمة جسر التقاء. بل ربما أمكن القول ان ذلك الجسر كان تهدم في اللحظة التي تم فيها تشييد البناء السياسي على نحو يفضل واحداً دون آخر. اختصر الأديب الكردي مسعاه في تحصين نفسه من الخطر. خطر أن يفقد لغته وتاريخه الخاص وذاكرته. كان يغمره شعور مرعب في أن هناك من يتواطأ على طرده من دائرة النص المكتوب. لقد تسربت نوازع الحرب إلى فضاء الكتابة. وإذا كانت الحرب عنفاً مادياً ينتج من رغبة طرف في استئصال الطرف الآخر وتغييبه، فإن الكتابة تصير حرباً بدورها، إذ تستعير برامجها في النبذ والإقصاء وتمررها على مستوى الذهن والفاعلية الكتابية. وحيث تخلق الحرب، على أرض الواقع، الرعب، فإن الإحساس بالهول يتسرب إلى خطوط النص أمام خطر التحول إلى لا شيء.
يحاول الكاتب الكردي بذل الجهد لكسر الطوق المضروب حوله. طوق الإهمال والإبعاد من ساحة الحضور. هو يحاول أن يبدد الصمت وأن يمتلك صوتاً خاصاً به وأن يجرّ الآخر إلى مكان يصغي إليه. الشعور بأنه مطرود ومتروك لأمره هو شعور مخيف. هذا الصراع الصامت والثقيل هو الذي يحمل مفاتيح الحرب إلى بوابات الكتابة. تصبح الكتابة وجهاً آخر من وجوه الحرب ويصير النص بمثابة سلاح.
يلهث الكاتب الكردي وراء صورته ليجدها في وجه غريمه فيصير يقلده في أشيائه. هو يحاول أن يتحرر من ذاته بمحاكاة الآخر الذي ينبذه. تشتبك الكتابة بحبال من خارجها: العصبية، الهوية، الانتماء، الإيديولوجيا. يحمل الأديب هموماً بعيدة عن عوالم الكتابة وهو يصير مروجاً لأفكار تتعارض مع مثل الأدب.
لم يجد الشاعر الكردي شيركو بيكه س حرجاً في التغني بزعيم كردي كان دأبه أن يقتل معارضيه ويزرع في أتباعه روح الخنوع ويدفع بهم في طريق تقديسه. هكذا في وجه الديكتاتور الكبير، الآخر، يتم الترويج لديكتاتورنا الصغير الذي لم يتسلم الحكم بعد. كان يكفي هذا الزعيم أن ينطق باسم القوم حتى يهرع إليه شاعر القوم ليهتف له.
لقد حملت الحروب المزمنة وسوء الفهم الدائم إلى الكتابة الكردية أسوأ إفرازاتها. تسربت الحماقة إلى النص وأبطلت فاعليته الجمالية. أبقت عليه سند دفاع عن الذات المرفوضة في وجه الآخر المتعالي.
نهضت الكتابة الأدبية الكردية على ضفاف العنف وتحت دخان الحرب. ومن أثر ذلك تغلغلت الخشونة إلى أوصالها.
في قصيدة صغيرة لشيركو بيكه س ثمة أربعة أطفال يجتمعون على رسم رجل. يرسم الأول، وهو تركي، رأس الرجل. ويرسم الثاني، وهو عربي، جذع الرجل. فيما يرسم الثالث، وهو فارسي، أطراف الرجل. أما الرابع، وهو كردي، فإنه يعلق بندقية على كتف الرجل.
هاجس الحرب والشغف بالسلاح يصيران مرضاً يهدد الطفولة نفسها ويصادر براءتها. يحاول الشاعر أن يقول أن الكردي يولد وفي يده السلاح، لأن الظروف تجبره على ذلك. ومع هذا فالتناقض الذي يقع فيه الشاعر ويتغافل عنه واضح. فالفكرة توحي بأن الكردي هو الأكثر تعلقاً بأدوات العنف. وبدل أن يعلق الطفل الكردي البندقية على كتف الرجل الذي رسمه الأطفال الآخرون بصدق ومن دون إضافات، كان الأحرى به أن ينزع السلاح من كتف الرجل، حين يرسمه آخر، ويعيده إلى عريه. إن القصيدة تخون ذاتها من حيث لا تدري. والشاعر، إذ يذهب وراء منطق الحرب، فإنه ينزع عن اللقطة رقتها ويفخخ الكلمات بكراهية سرية.
ولكن الآخر يرفض اللقاء في كل الأحوال... ينبغي تشييد الأساس من جديد بحيث يغيب الخوف ويحل محله فراغ يمتلئ بشبق الرغبة في أن يكون الواحد ذاته والآخر في آن معاً. لو كان الأمر كذلك منذ البدء، ما كان للشاعر الراحل بلند الحيدري أن يجد نفسه في مأزق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.