"الفضيلة وسط بين رذيلتين"، كذا يقول أرسطو، كالشجاعة بين الجُبن والتهور، والكرم بين الشُح والتبذير. فإن أردنا مثالا آخر وجدناه في تفاوت اهتمام الشعوب بالتاريخ، فالمعروف أن الشعب الاميركي اليوم من أقل شعوب العالم احتفاء بالتاريخ، وأن مادة التاريخ هي أثقل المواد الدراسية وأبغضها عند طلبة مدارسهم، وهو أمر يفسر لنا عدم اكتراث سلطات الاحتلال الاميركية في العراق بإخماد الحرائق ووقف اعمال السلب والنهب في كل من المكتبة الوطنية ومتحف الاثار في بغداد، وإيلاءها الاهتمام الأكبر لحماية حقول النفط في مستعمرتها الجديدة. فإن التمسنا العذر لهم فقد يقال ان كثرة المعلومات المتاحة اليوم عن مظاهر الحياة المعاصرة كافة أي المعلومات الافقية لا تترك من الوقت أو الجهد فائضا للغوض في وقائع الماضي المعلومات الرأسية. وعلى أي حال، فإن العبارة التي كثيرا ما يرد بها الاميركيون على مجادليهم: "ذلك تاريخ that is history" والتي يعنون بها أن ما يقوله المجادلون لا أهمية له ولا دلالة أو صلة بواقع الحال، تكشف عن ضعف احترامهم للتاريخ، وكأنما هو في مفهومهم "أساطير الأولين". يروي المؤرخ البريطاني الكبير اريك هوبزيوم Hobsbalom في مقدمة كتابه عن تاريخ القرن العشرين "عصر التطرف"، إنه تطرق اثناء محاضرة له في احدى الجامعات الاميركية الى الحدث عن الحرب العالمية الثانية، فإذا بطالب اميركي نابه يسأله "تقول الحرب العالمية الثانية؟ هل أفهم من كلامك هذا أنه كانت هناك حرب عالمية أولى؟"! نقيض هذا الموقف نجده بين الشعوب الاسلامية، حتى الأميين فيها وأشباه الاميين، فثمة احداث في التاريخ الاسلامي هي حية وماثلة دوما في اذهان الكثيرين وكأنما ما وقع منها منذ عشرة قرون، أو اربعة عشر قرنا، قد وقع بالأمس القريب، كغزوة بدر، والنزاع بين علي ومعاوية، ومذبحة كربلاء أقصد مذبحتها الاولى التي قتل فيها الحسين بن علي والحروب الصليبية، وربما ايضاً سقوط الدولة الاسلامية في الاندس. ينزلق لسان الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش الى الحديث عن ضرورة شن حرب صليبية ضد الارهاب لا أدري من الذي اخبره بحروب في التاريخ تُدعى الحروب الصليبية، فيستعر غضب الشارع الإسلامي من اقصى المشرق الى اقصى المغرب، إذ يتذكر المسلمون أحداث الحروب الصليبية في العصور الوسطى. صدام حسين يصف حربه مع ايران "بقادسية" صدام، لا نزال نلعن قسوة الحجاج بن يوسف الثقفي، ونهز رأسنا آسفين لانخداع ابي موسى الاشعري بعمرو بن العاص وقت التحكيم، ونوقر عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز توقيرا لا أرى مبررا قويا له. ولا يزال العويل والصراخ ولطم الخدود وجلد الأبدان يتكرر كل عام عند الشيعة في ذكرى مقتل الحسين، في حين لا تثير ذكرى اغتيال يوليوس قيصر في روما، او هنري الرابع في فرنسا اليوم اية مشاعر من الحزن أو الغضب. قد تسرّنا حيوية الصورة التي تخلفها الاحداث التاريخية في اذهان المسلمين المعاصرين باعتبارها مظهرا من مظاهر وعي مرغوب فيه، ومُبارك لاشك، بالتاريخ، غير أن رواسب العداء المتبقية اليوم بين السُنة والشيعة على سبيل المثال لا يمكن أن تُسعد أحدا أو يمكن تبريرها بعد مرور القرون الطويلة على أصول الخلاف. فعندنا رذيلة الإفراط كما أن عند الاميركيين رذيلة التفريط، وهو ما يذكرني بحديث دار بيني وبين كريستوفر ديكي مراسل مجلة "نيوزويك" الاميركية في منطقتنا، حين زارني العام 1994 في القاهرة بعد تغطية لزلزال رهيب في ايران، وقال لي أثناءه إنه لا أمل للمنطقة في تقدم أو حداثة ما بقيت أوضاع العائلة عند المسلمين على حالها، وستظل هذه الحال قائمة مادمنا لا نعرف الحراك الاجتماعي، وسهولة تنقل الفرد - كما في الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية - من وظيفة الى أخرى، ومن مدينة أو دولة الى مدينة أو دولة. ثم أضاف قوله: سألتُ أحد الايرانيين الباكين عند موقع الزلزال عما اذا كان قد فقد اقارب له فيه، فأجاب بأنه فقد في الزلزال مئة وستة عشر قريبا له، مئة وستة عشر قريبا له؟! لو أنك طلبت من اميركي أن يذكر لك اسماء ستة فقط من أقاربه، فالغالب انه لن يستطيع الرد!. اختلاف في القيم والمفاهيم والتقاليد قد لا يكون بوسعنا المفاضلة بينها. والأرجح أنها كلها رذائل لا موقع للفضيلة بينها! * كاتب مصري.