التغيير والاصلاح في حياة الامم والشعوب من سنن الحياة، وتقود مخالفتهما او عرقلتهما او تجاهلهما الى نتائج غير محمودة العواقب. وأهم عوامل نجاح التغيير والاصلاح أن يكونا في الوقت المناسب وأن يأتيا بمبادرة وقناعة ذاتيتين. ومن هنا يأتي دور القيادات في قراءة التطورات الاجتماعية والثقافية والسياسية وغيرها على المستويات المحلية والاقليمية والدولية ليتم التغيير في الوقت والشكل المناسبين. والشروع في التجربة الديموقراطية والسير بها هو انجح الطرق في اعداد المجتمعات للديموقراطية بمستواها المطلوب. ان بعض المجتمعات العربية لم يعرف الديموقراطية حتى الآن، وبعضها توقف قطار الديموقراطية عنده بعدما قطع شوطاً، مما أدى الى انتشار الفساد واضطهاد الانسان العربي، وقاد الى تراجع التنمية بجانبيها المادي والانساني، فساد التوتر والقلق، وهمّش دور الانسان ومشاركته. ولا ابالغ في قناعتي بأن غياب الحريات واضطهاد الانسان العربي، وسلب حقوقه الانسانية، وتحوله الى مجرد متلقٍ لما يفرض عليه من قوانين وتشريعات، هي أسباب رئيسية للكوارث التي مرّت بها الامة، وان اضعاف الجبهة الداخلية وخلق الفجوة بين الشعب والسلطة فتحا شهية الاجنبي للتدخل غير المباشر، واخيراً المباشر كما حدث في العراق. وفي تقديري ان هذا اهم درس من هذه الازمة او المحنة التي تمر بها الامة، وإن قيادة لا تستوعب هذا الدرس وتتمادى في فسادها وعزلتها، يصبح محتماً عليها ان تقود الشعب الى الهاوية، وحين تتعرض للخطر فلن تجد شعباً حوّلته الى عبيد مستعداً للوقوف معها في خندق واحد للدفاع معها عن وطن سرقته. ان صدور دستور دائم في حياة الشعوب حدث مهم ونقطة تحول في حياتها وفي نظرتها الى الحاضر والمستقبل، خصوصاً اذا كان هذا الدستور الدائم هو الاول من نوعه في حياة شعب ما. وعلى رغم ان مسيرة المشاركة الشعبية في قطر، بدأت بتولي الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني مقاليد السلطة عام 1995 من خلال خطوات جديرة بالتسجيل والثناء، مثل سيادة مبدأ الانتخابات في المجلس البلدي وغرفة التجارة والصناعة، وغيرها من المؤسسات، ومثل الاهتمام بدور المرأة وفتح مجال المشاركة لها في الانتخابات انتخاباً وترشيحاً، ومثل رفع الرقابة عن وسائل الاعلام وتأسيس قناة "الجزيرة" التي ملأت الدنيا صيتاً وشكلت نقطة تحول في الاعلام العربي المرئي، الى ما هنالك من خطوات معروفة. لكن يعتبر صدور الدستور الدائم، الذي سيصوت عليه في التاسع والعشرين من هذا الشهر، تتويج لهذا التوجه الديموقراطي، اذ حدد الدستور شكل الدولة وأسس الحكم، والمقومات الاساسية للمجتمع وحقوقه وواجباته، وتنظيم السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. وقبل الدخول بشيء من الايجاز الى ملامح هذا الدستور، اود ان اشير الى انه يجب ان يسجل وبكثير من التقدير لأمير قطر مبادرته التي بدأت متواضعة، لكنها راحت تشق طريقها لتصبح تجربة الى جانب التجارب الديموقراطية المعاشة. قد يعتقد البعض ان هذا الدستور جاء كردة فعل على الأحداث الراهنة التي يشهدها العالم وبالذات بعد احداث الحادي عشر من ايلول سبتمبر ورفع شعار الديموقراطية كوسيلة ضغط. واسجل انصافاً للحق، ووضعاً للامور في نصابها، ان هذا الدستور ليس ردة فعل لهذه الاحداث، واؤكد من خلال مراقبتي كسياسي قطري ان التوجه الديموقراطي والرغبة في بناء دولة مؤسسات وسيادة القانون تمثل قناعة راسخة لدى امير قطر، وقد ذكّرني سموه بما كان يثيره معي من سعيه الى ان يرى قطر تتمتع بدستور دائم وبمؤسسات وسيادة للقانون. وكان ذلك حتى قبل ان يصبح اميراً ومنذ كان ولياً للعهد، وجاء التذكير قبل أيام عدة واثناء تجاذب لأطراف الحديث بعد افتتاحه لمؤتمر الديموقراطية والتجارة الحرة في الدوحة. ومرة اخرى حين دعا الفعاليات القطرية الى الديوان الأميري يوم الثلثاء الماضي ليطلعنا على الدستور ويعلن طرحه للاستفتاء. كما ان اللجنة التي أوكلت اليها صياغة الدستور كان تم تشكيلها في 12/7/1999 أي قبل نحو أربع سنوات. ولعل من المناسب الحديث عن بعض ملامح الدستور القطري الدائم لإعطاء القارىء الكريم فكرة عنه. فهذا الدستور يحدد انتماء قطر باعتبارها دولة عربية، دينها الاسلام وشعبها جزء من الأمة العربية. وان دعامات المجتمع القطري هي العدل والاحسان والحرية والمساواة ومكارم الاخلاق. وبالاضافة الى المبادئ العامة المعروفة في الدساتير الحديثة فإن هذا الدستور ينص على ان المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات العامة وامام القانون وان لا تمييز بينهم بسبب الجنس او الاصل او اللغة او الدين. ويكفل مجموعة من الحقوق من ضمنها الحق في التجمع، وحرية تكوين الجمعيات وحرية الرأي والبحث العلمي وحرية الصحافة والطباعة والنشر وحرية العبادة. كما يقرر ان الشعب هو مصدر السلطات. وينص الدستور أيضاً على تكوين مجلس شورى يتولى السلطات التشريعية. ويتبادر الى الذهن من التسمية انه شبيه بمجالس الشورى السابقة في دول الخليج التي لا سلطة لها. لكن الدستور القطري الدائم يجعل مجلس الشورى برلماناً تشريعياً. وربما رأى المشرع بهذه التسمية ان يعطي المجلس تسمية عربية وإسلامية كما هي الحال في ماليزيا وايران. المهم ان نشير الى ان صلاحيات المجلس تجعل منه برلماناً، فإلى جانب سلطة التشريع، يقرّ الموازنة العامة للدولة، ويمارس الرقابة على السلطة التنفيذية ويتكون من خمسة واربعين عضواً، 30 منهم بالانتخاب الحر المباشر وخمسة عشر بالتعيين ومن الوزراء او من غيرهم. ومن صلاحيات المجلس ان يقوم اعضاؤه باقتراح مشاريع قوانين، كما ان من حقهم ابداء الرغبات للحكومة في المسائل العامة، كما انه من حق كل عضو ان يوجه استيضاحاً لرئيس مجلس الوزراء او الوزراء كل في اختصاصه. وأيضاً من حق كل عضو ان يوجه استجواباً الى الوزراء، ويجوز ايضاً بعد مناقشة الاستجواب طرح الثقة في الوزير وفق اجراءات ينص عليها الدستور. كما ان هناك جهة قضائية تختص بالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين وتبين صلاحيات وكيفية الطعن والاجراءات. ويتيح الدستور امكان التعديل بعد عشر سنوات من صدوره، وهذه مرونة. فالمجتمع والعالم من حوله يتغير بسرعة. وحينئذ ستكون التجربة مرت دورة بدورتين ونصف للبرلمان تسمح بتقويم التجربة وتطويرها. وسيذهب القطريون في التاسع والعشرين من هذا الشهر للتصويت على الدستور، وهذا يتطلب استيعاب الدستور وما يمنحه من حقوق وما ينص عليه من واجبات. كما يتطلب ان نحوّل الديموقراطية والمشاركة الى منهج حياة من خلال بناء المؤسسات الفاعلة، ومن خلال سيادة الشفافية وسيادة القانون كركائز للعمل الوطني، بالاضافة الى السعي لبناء مؤسسات مجتمع مدني تحول الديموقراطية الى واقع معاش. والمطلوب ممارسة الحريات التي يضمنها لنا الدستور، وبالذات حرية الكلمة واصدار الصحف، بحيث يتحول واقعنا الى ديموقراطية تحقق المشاركة المطلوبة في صناعة القرار. وتأتي التجربة القطرية ضمن التوجه العام في منطقة الخليج الذي تحتل مقدمته التجربة الكويتية التي تعتبر اعرق التجارب الخليجية، وأسجل بأن الدستور الكويتي والتفاف الحكومة والشعب حوله كان الضمان لتوحيد الكويتيين وعودتهم الى بلادهم بعد غزو صدام حسين لها، ولكن ينقص هذه التجربة اقرارها لحقوق المرأة ونأمل بأن يتم ذلك قريباً. والتجربة العمانية تجربة جيدة وأخذت اسلوب التدرج. ولا أشك في ان التوجه الديموقراطي في البحرين لعب دوراً اساسياً في تحقيق الاستقرار في هذا البلد وإبعاد شبح التوتر عنه، وإن كنت اتمنى لو لم يؤخذ بصيغة مجلسين متساويين في العدد، احدهما معين والآخر منتخب. ان التوجه الديموقراطي العام في الخليج العربي يدفع الى ضرورة اعادة النظر في الهيئة الاستشارية لمجلس التعاون لمسايرة التطور وجعلها اكثر فعالية بحيث تتحول الى برلمان خليجي مشترك. * سياسي قطري.