تجمهرت حشود خارج القصر في كل مكان. على الجدران وفوق الأغصان وعلى الأرصفة في الفناء الداخلي. هيئت منصة وضعت فيها مقاعد مريحة للضيوف الكبار، واستقر بعض الديبلوماسيين ومتفرجون سود وبيض يرقبون العرض السنوي الدوربار الذي يقام في مدينة كانو الواقعة شمال نيجيريا احتفالاً بالعيد الكبير الأضحى. يخرج في هذا العرض نبلاء القرى والمناطق المحيطة بكانو بملابسهم التقليدية الزاهية وهم يمتطون خيولاً مزينة، ويقدمون لمعايدة أمير كانو في ساحة قصره الواقع في مركز المدينة القديم. عند الغروب ومع اقتراب العرض من نهايته لوحظ هرج ومرج خارج الفناء وعلا صخب من نوع مختلف عن الذي ساد العرض. وامتزج غبار ريح الهارمتان الجافة التي تبدو كطبقة ضبابية مع غاز مسيل للدموع، وعلت سحابة من الدخان بدت من خلالها الأجساد الهاربة عبر الدروب وتلك النازلة على عجل من فوق الأشجار ومن على الجدران، كأطياف أشباح ما أضفى على المشهد وقعاً خاصاً. وبين دبابات تشق الطريق وسط جنود يشهرون السلاح، وفرسان يتهادون على خيولهم، ومشاة يتراكضون، ومتظاهرين بزيهم الأخضر يكبرون ومواكب حكومية وديبلوماسية تفسح لها الطريق بقوة السلاح، بدأ عرض من نوع آخر أكثر سوريالية. "هذا أمر مألوف في كانو هذه الأيام" علّق جامعي من سكانها. وأضاف: "مع اقتراب الانتخابات وتنافس الحزبين الرئيسين تصبح مناسبة كتلك وسيلة لإعلان المواقف". وكان فريق من المؤيدين لحزب المرشَح للرئاسة محمد بوهاري كل الشعب النيجيري، بدأ بالتكبير ورمي الحجارة على موكب حاكم المدينة الذي قدم لحضور العرض، وهو من المنتمين إلى حزب الرئيس الحالي والمرشح لولاية ثانية الحزب الديموقراطي الشعبي. عنف سياسي بين مختلف المتنافسين على المقاعد النيابية ومناصب حكام الولايات، وعنف طائفي بين المسلمين والمسيحيين، وعنف عرقي بين أكثر من 200 عرق تعيش على أرض هذه الجمهورية الفيديرالية. حساسيات لا تحصى تتزايد احتمالات اشتعالها على ابواب أول انتخابات نيابية ورئاسية بتنظيم مدني. "العملاق الأفريقي" يفخر بعض النيجيريين باسم "عملاق القارة الأفريقية" الذي يطلق على نيجيريا التي تلعب دور الزعامة في القارة الأفريقية. اذ تدخلت عسكرياً لحل الخلافات في ليبيريا وسيراليون. ولا ينكر آخر وهو خريج علوم سياسية أن نيجيريا "عملاق القارة" ودورها رئيسي فيها لكن "هي جيدة لغيرها، ولا تتمتع هي نفسها بما تمنحه للغير: الأمن والكهرباء. تعطي الطاقة للنيجر والكاميرون فيما نحن محرومون منها" في إشارة إلى الانقطاع المستمر للتيار وحرمان قطاع واسع من السكان منه. ونيجيريا التي تطمح لأن تكون "عملاق أفريقيا" بثقلها الاقتصادي والعسكري والسكاني، هي الدولة الأكثر تعداداً للسكان في القارة السمراء، إذ يتجاوز عدد سكانها 120 مليوناً، ويصل عدد اللغات المحلية المحكية فيها إلى نحو 478 لغة تتكلمها مختلف القبائل والأعراق وأكبرها عدداً الهاوسا 21 في المئة يليهم اليوروبا 20 في المئة ثم الإيبو 16.5في المئة. وعلى رغم أن تقسيم المناطق لا يتم على أساس عرقي أو ديني، إذ يتعايش المسلمون والمسيحيون وأصحاب الديانات الأفريقية التقليدية، يستقر معظم الهاوسا المسلمين في شمال البلاد، والايبو المسيحيين في جنوبها الشرقي، واليوروبا مسلمين ومسيحيين في الجنوب الغربي. ويعتبر الجنوب المصدر الرئيسي لغنى البلاد ففيه آبار النفط، وتقع نيجيريا في المرتبة السادسة على قائمة الدول المصدرة، والموقع الأول في أفريقيا والسابع عالمياً لجهة الإنتاج. ويقدر احتياطها من الغاز ب120 ألف بليون م3 ما يضعها في المرتبة العاشرة عالمياً. نالت نيجيريا استقلالها عام 1960 وكانت مستعمرة بريطانية. وفي عام 1967 اندلعت حرب البيافرا بعد اغتيال رئيس البلاد من الإيبو الذي وصل إلى الحكم بانقلاب عسكري. وأعلن الجنوب الشرقي للبلاد حيث يغلب وجود قبائل الإيبو انفصاله وتشكيل جمهورية مستقلة. وانتهت الحرب التي راح ضحيتها نحو مليون شخص بعد ثلاثة أعوام. وتعاقبت الانقلابات العسكرية على البلاد ووصل عددها إلى عشرة منذ عام 1966 ما عدا فترة قصيرة 1979-1983 سادت خلالها الديموقراطية. وتعهد الرئيس ابراهيم بابنغيدا عام 1989 تسليم السلطة إلى المدنيين، لكن تدخل الجيش في نتائج الانتخابات عام 1993 وفرضه الجنرال ساني أباشا رئيساً أوقف إجراءات التسليم ما أدى إلى وقوع الاضطرابات من جديد، إلى أن أجريت أول انتخابات رئاسية عام 1999 استلم اثرها الرئيس الحالي أوليسيغون أوباسانجو الحكم. وتشهد نيجيريا غداً انتخابات رئاسية يتنافس فيها أوباسانجو وبوهاري، وهو رئيس سابق إبان الحكم العسكري. وشهدت البلاد الأسبوع الماضي انتخابات نيابية كانت مثار انتقادات من عشرة أحزاب معارضة ومنها حزب بوهاري، ووجهت اتهامات الى حزب أوباسانجو بالتلاعب بعدما أظهرت النتائج الأولية تفوقه. وتعاني نيجيريا من مشكلات اقتصادية وديون خارجية. فهي بلد غني سكانه فقراء، إذ أن ثلثي هؤلاء يعيشون تحت عتبة الفقر بحسب دراسة أجريت أخيراً. كما تعاني من اضطرابات داخلية مستمرة عرقية ودينية وسياسية وأمنية. وتنتشر في الصحف في هذه الفترة أخبار الاغتيالات والمواجهات الطائفية وأعمال قتل وتهجير وتدمير للممتلكات. وتركز معظم حوادث العنف اخيراً في وسط البلاد وجنوبها، ما ادى الى مئات من الضحايا إضافة إلى الخسائر المادية البالغة ونزوح واسع للسكان عن أراضيهم. وتعود أسباب الأوضاع المتفاقمة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً إلى ضعف الدولة والنظام السياسي اللذين أديا إلى تقسيم متزايد للبلد من ثلاث ولايات عام 1966 إلى 36 حالياً، وهي تقسيمات لم تقم على أسس الموارد المحلية لكل ولاية كما أنها ساهمت في عدم تحقيق الاستقرار. كذلك فإن انتشار الرشوة يؤدي إلى حرمان البلاد من مصادر مهمة للدخل. ويضاف إلى ما سبق عوامل أخرى يوردها الباحث الفرنسي في "مركز دراسات أفريقيا السوداء" دانيال باخ الذي يرى "أن اعتماد دولة القانون وكل مشاريع إصلاحات سير عمل النظام الفيديرالي ومنها توزيع المداخيل في الفيديرالية أجلت"، وأن اعتماد قانون مكافحة الرشوة "لم يؤد إلى ثني النواب عن زيادة حصتهم من الكعكة الوطنية". أما تحقيق الوحدة الوطنية فيلقى مصاعب جمة ومعقدة. "إذا قال لك أحدهم أنا نيجيري فلا تصدقه"، تقول جامعية من اليوروبا في إشارة إلى شعور النيجيري بانتمائه القبلي وليس الوطني. "نظن انهم من عالم آخر الهاوسا والإيبو. في الحقيقة هي ثقافة واحدة. لكنني أعتقد بأنه الجهل، فنحن لا نعرف أننا متشابهون. الاختلاف هو لغوي محض". وتتابع الشابة التي درست في لندن: "اليوروبا أكثر علماً وهم يتقبلون الآخر أكثر من غيرهم لكنهم لا يتفاهمون مع أحد. وفي السياسة هم وحدهم الذين يعارضون. الهاوسا تقليديون ولا يتأقلمون مع الآخر، اما الإيبو فلا تهمهم إلا التجارة". وتتشابه الآراء والتعليقات التي تؤكد عدم الشعور بوجود وحدة وطنية. ويطالب الحكام المحليون للجنوب الشرقي الغني بالنفط مسيحي بتحقيق "فيديرالية متوازنة" عبر قيام ولايات مستقلة أو ذات حكم ذاتي لها دستورها الخاص وحرية التصرف في ثرواتها، وهم يجارون في ذلك شريحة واسعة من الرأي العام في الولايات النفطية ترغب بالاستقلال عن بقية المناطق. ولكن مع الأخذ في الاعتبار أن النفط المصدر الرئيس لغنى البلاد متوافر في الجنوب فقط، فإن مطالبة كهذه لها دلالتها اذ انها تحرم الشمال المسلم من ثروات البلاد. ويثير الشمال القوي سياسياً والفقير مادياً الأكثر فقراً بين المناطق حفيظة الكثيرين بتطبيقه للشريعة الإسلامية منذ أربعة أعوام. وعلى رغم أن الحديث عن تطبيق الشريعة في نيجيريا بدأ في السنوات القليلة الماضية فإن الشريعة في الواقع متجذرة في تقاليد تاريخية قديمة للشمال. ويذكر باخ أن هذه التقاليد أعيد إحياؤها في بداية القرن التاسع عشر عبر الجهاد وإقامة الخلافة في سوكوتو على يد حركة إصلاح وتطهير الإسلام. وخلال الاستعمار البريطاني تمت المحافظة على تطبيقات القوانين الإسلامية لا سيما في المجال المدني. بيد أن بعض القوانين الأخرى المتعلقة بإقامة الحدود استبدلت بالسجن والشنق. وبعد الاستقلال وحل المناطق وإعادة تقسيمها، وضعت قيود أخرى على تطبيقات القانون الإسلامي حيث أصبحت المحاكم خاضعة أكثر للسيطرة المركزية. ومع مرور السنوات وزوال نفوذ النظام القضائي النيجيري أصبحت قوانين الشريعة الوحيدة التي تعطي إجابات ملموسة وسريعة لقضايا عدم الأمان الذي ارتبط بانتشار العنف والرشوة. ويرى باخ أن الإدارة القضائية التي تعتمد موازنة مركزية كانت مشلولة في عملها اليومي ولم تعط الإمكانات اللازمة لأداء مهماتها. كذلك كانت تكاليف القضاء المرتفعة وإجراءاته الطويلة الأمد، وتعقيداته غير المفهومة للعامة، واكتظاظ السجون والفوضى المنتشرة في الملفات وضياعها وانتشار العنف والرشوة في أوساط الشرطة، كلها أسباب عجلت في اعتماد الشريعة التي جذبت الناس بقدرتها على نطق الأحكام بسرعة والتنفيذ الفوري لها. بيد أن ذلك لم يمنع حدوث انحرافات في التطبيق، كما أن عقوبات اقامة الحدود أصبحت موضوعاً لاعتراضات حتى لرجال من القانون الإسلامي في نيجيريا. وأعادت قضية أمينة لوال المتهمة بالزنى لأنها ولدت طفلة من دون زواج، الجدل حول تطبيقات الشريعة من حيث تطبيق الحدود على النساء والضعفاء وليس على النخب السياسية التي حصلت على مبالغ طائلة من خزانة الدولة اثنان من الرؤساء السابقين أخذا من خزانة الدولة ما مجموعه 28 بليون دولار وهو ما يشكل نصف ديون نيجيريا الخارجية كاملة. ويعزو باخ اللجوء إلى الإعلان عن تطبيق قوانين الجزاء في الشريعة إلى شعور ولايات الشمال "بالتهميش" وذلك منذ أن بدأ الرئيس الحالي المنتخب عام 1999 بالابتعاد عن الشماليين الذين ساعدوه في الوصول إلى السلطة. اذ اتخذ إجراءات ضد بعض الضباط الشماليين بدت وكأنها مؤشر على إرادة عامة من الدولة في السيطرة على مواردها التي طالما استفاد منها الشمال. ووعد بوهاري، مرشح الشمال كما يطلق عليه البعض، باحترام الصيغة العلمانية لنيجيريا، كما أعطى تأكيدات بأنه لن يحولها دولة إسلامية وبأنه ليس "مرشح المسلمين والشماليين" مذكّراً بأنه اتخذ خلال فترة حكمه السابقة إجراءات لتحديد عدد المسلمين الذاهبين إلى الحج وسجن سياسيين مسلمين من الشمال. ويدين عدد كبير من النيجيريين تطبيق الشريعة في الشمال ويستخدمها بعضهم ذريعة للمطالبة باستقلال الجنوب عنه. ويخشى الجميع من الآثار التي يمكن أن تنجم عن نتائج الانتخابات على الوضع الداخلي المضطرب، وما قد تثيره من مواجهات واشتباكات إذا حصل تلاعب فيها أو رفض الطرف الخاسر نتائجها. وعندما تندلع اشتباكات في هذا البلد، فإنها لا تتم في شكل محدود بل ككل ما يجري هنا. كل شيء يأخذ "حقه" ومداه الكامل: العنف والوّد، الفقر والغنى، الجهل والثقافة، الاستغلال والطيبة... كل ذلك يترافق على نحو مدهش في بلد واسع لا يمكن الإحاطة به بكلمات قليلة. بيد أن عبارة لموسيقية فرنسية قدمت إلى نيجيريا قد تكون التعبير الأنسب "طلب مني المجيء ولم أكن سمعت الكثير عن هذا البلد، لحسن الحظ، لأنني لو عرفت مسبقاً كل ما سمعته عنه ومنذ قدومي، لما كنت أتيت حتماً. لكن، كم أنا سعيدة الآن لأنني هنا".